يواصل العراقيون احتجاجاتهم منذ مطلع تشرين الأول/أكتوبر وحتى هذه اللحظة، رغم ما يواجهونه من قمع وقتل واعتقالات بالمجان، بثورة تعد من أعظم الثورات التي حدثت في تاريخ العراق، كونها انطلقت من الشعب خالصة دون محرضات أيديولوجية أو حزبية سياسية، ولا قائد حتى اللحظة لهذا الفعل. كل محتج هو مسؤول عن نفسه، فيما تتسم الثورة بشعار السلمية المطلقة، رافعة شعار الرفض المطلق لكل من حكم وشارك في تشكيل الحكم من بعد سقوط النظام البائد وحتى اليوم.
بعد احتجاجات تشرين انكشف النظام السياسي الذي لعب على الطائفية طوال 16 عامًا، حيث ذابت كل الهويات الفرعية في هوية العراق الواحدة
في ثورتهم هذه، يواجه العراقيون جيوشًا عقائدية لا تحصى ولا تعد، تبرّر باسم الله والطائفة سفك الدماء وقتل الصغار والكبار، وكلما حدثت مجزرة، يزدادون إصرارًا وعنادًا وعددًا. لقد عرف العراقيون كل شيء، لم يعد ثمة ما هو مخفي، القتلة معروفون، النظام السياسي كله انكشف، النظام الذي لعب لمدة ستة عشر عامًا على الطائفية انكشفت ألاعيبه، وقد ذابت كل الهويات العرقية والدينية في هوية واحدة، هوية العراق الواحد.
اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة العراق وتطلعات الجيل الجديد
لكن الصراع اليوم في العراق، ليس صراع مذاهب و أعراق، بل صراع دول طامعة، التدخل الإيراني من جهة يحمل فكرة أيديولوجية يحاول أن يوسعها على أكبر مساحة تسمح له بذلك، وله عملاء كثر، وأتباع يعملون على الإطاحة بالتظاهرات بحجة أنها "أمريكية"، هدفها الإطاحة بالمذهب والعقيدة، هذا ما سمعته من سياسيين كبار شخصيًا، أحدهم قال لي: "لو حصلت حرب عراقية إيرانية فإنني سأقاتل مع ولاية الفقيه ضدكم"، وفي الجهة المقابلة هناك أمريكا، التي لا هم لها سوى أن يبقى العراق مستهلكًا وضعيفًا كونها تستفيد من وضعه الإقليمي والجغرافي. أمريكا هي المسؤول الأول عن كل ما حصل ويحصل من خراب في هذا البلد، كونها هي من جاءت بهذه الطغمة السياسية بعد 2003، حيث لا يزال الخوف شغّالًا في نفوس العراقيين من أعتى دكتاتور مر على هذه البلاد. وشخصيًا، ومثلي الكثير، لا نثق بأي عراقي شارك في العملية السياسية، كون الكل منقسم إلى "عملاء" يعملون لدول خارجية، ثمة من يعمل لصالح أمريكا، ومن يعمل لصالح إيران، ومن يعمل لصالح السعودية، ومن يعمل لصالح نفسه، ولا أحد يهمه هذا الشعب الكادح.
إن من إيجابيات هذه الثورة، أنها أطاحت بجزء كبير من المقدسات التي كانت تستغل نفوس الأبرياء. أطاحت بكثير من المثقفين وكشفت زيفهم، أطاحت بالخوف الذي كان يقتات على قلوب الناس، إذ يتراوح عمر أغلب الثوّار بين 14 سنة إلى 35، جيل حطمته الأيديولوجيات، يائسٌ لا يملك ما يخسره سوى حياته التي هي بلا معنى تحت ظل النظام الحاكم، حيث حمل راية العراق العظمى، راية الرفض المطلق، وقال كلمته أمام الإسلام السياسي في العراق. وحتى لو قمعت هذه الثورة بالكامل، فإن الإسلام السياسي الذي تشكّل طائفيًا، مات منذ انطلاق الشرارة الأولى، منذ أول جثة ارتقت إلى علياء الزمان. لقد ولّى زمن الدكتاتور، فهذا جيل لا يخاف الموت، جيل ساهم الحرمان والعوز في تشكيل بنيته الثقافية، بالإضافة إلى الخسارات المتتالية.
لكن من سلبيات هذه الثورة، أنها لا تخلو من راكبي الأمواج، الذين حاولوا ويحاولون بشتى الطرق أن تحمل الثورة راية من راياتهم، أو فكرة من أفكارهم، تناحروا وتقاتلوا فيما بينهم - وكان ثمن اقتتالهم دماء الأبرياء - من أجل أن يخلقوا الأزمات لكي يتدخلوا في حلها. هذه سياسة تتبعها المؤسسة الدينية دائمًا، ولا نستطيع وسط هؤلاء أن نضمن تمامًا نجاح هذه الثورة في بناء دولة ديمقراطية حقيقية، إلا بعد إجراء انتخابات عادلة. الانتخابات هي الفيصل، وهي من تحكم، فإذا كان هذا الرفض حقيقيًا، وهذه الاحتجاجات تحمل قنوطًا من النظام القائم، فإن الانتخابات ستكون الثورة الأجمل، الثورة التي لا يراق فيها سوى الحبر، أما إذا حصل العكس، فهذا لا يعني سوى أن هذه الاحتجاجات لا تعدو كونها اندفاعًا لا أكثر، وهذا يعني أن الحراك الجماهيري وحده لا يكفي. لا بدّ أن يتدخل الشرفاء من المثقفين والقانونيين، ومن لهم دراية وفهم في أمور السياسة للبدء في التنظيم، فالجماهير غاضبة، وهي غير مفكرة أبدًا، لذا فضرورة على المختصين أن يتدخلوا، خصوصًا فيما يتعلق بقانون الانتخابات وتعديل الدستور، فانتهاء الثورة دون إتمام هاتين المهمتين المهمتين لا يعني سوى أن كل ما قدمه العراقيون من دماء وزمن سيذهب هواء في شبك. لنحافظ على ثورتنا!
اقرأ/ي أيضًا: