27-سبتمبر-2020

صارت عبارة "اللا دولة" تُردد على جميع الألسن (Getty)

 لا تنطبق الكثير من المفاهيم والمصطلحات والنظريات السياسية على واقع العراق ليس لوجوده في شرق الكوكب مقابل غربية نشأتها، بل لأن النظام السياسي الحالي أقل رفعة من أن يُنظّم بنظريات ومفاهيم حاول الفلاسفة والمفكرون أن يختزلون من خلالها العديد من الظواهر. ما يوجد هو الفوضى، فحسب.

في لحظة 2003، وجد الفرد العراقي بعشيرته مدافعًا عينيًا ومصدر أمانٍ في حياته اليومية

لكن العملية السياسية وما تنتجه من أحداث يومية ربما ستغني مراكز البحث والدراسات المعنية بمفهوم الدولة والديمقراطية من الزاوية السلبية، أي نفي الديمقراطية عن نظام يدعيها، وغياب الدولة رغم وجودها النظري والبيروقراطي، كما تُعطي الحالة العراقية نماذج عينية للجامعات والكليات المتخصصة بتدريس السياسة عن الحالة التأريخية لعصر ما قبل الدولة والقوالب التنظيرية لفكر الدولة وضرورتها.

اقرأ/ي أيضًا: عن المجتمع المهزوم

فور سقوط النظام السابق عاد المجتمع إلى جذوره الطبيعية الما قبل دولتية، وهي ليست مثلبة بذاتها، إذ حالما يغيب غطاء الدولة الجامع للتركيبات المجتمعية ستعود تلك التركيبات إلى وضعها وهوياتها الأهلية التي لم تخلقها الدولة. وفي الحالة العراقية، فأن التراكيب المتفسخة بفعل انهيار الدولة كانت بطبيعة الحال طائفية، وعشائرية، وقومية في حالة الكرد مثلًا.

وبدلًا من لَمْ ما تشظى بحل الدولة، قام الحاكم الأمريكي بريمر ومن جاء معه بخطيئة كبرى عبر ترسيخ الانقسام الطبيعي وتمثيله سياسيًا وتحويل الدولة إلى إناء يفصل ما صار يُعرف بـ"المكونات" بدل أن يصهرها، فاضطرت حتى الهويات الفرعية التي ليس لها طموحًا سياسيًا أن تسعى لتمثيلٍ في الحكومة ومجلس النواب والهيئات الأخرى كي لا يدوسها قطار المحاصصة كما داس الهوية الوطنية.

إن لجوء المجتمع العراقي إلى هوياته الفرعية يجب أن يوضع في سياقه الصحيح وعباراته الموضوعية: العودة إلى الجذور الطبيعية.. واللجوء إلى ما يحميه من نفسه! ذلك أن نقد المجتمع الأهلي لا معنى له في ظل عدم وجود البديل الحديث: الدولة.

في لحظة 2003، وجد الفرد العراقي بعشيرته مدافعًا عينيًا ومصدر أمانٍ في حياته اليومية، و"حلالَ مشاكل" كما يقول العراقيون عمّن يحل النزاعات الاجتماعية، فما السبيل أمام المرء حين يعجز الشرطي عن الإتيان بحقه حين يغدو رجل الأمن مجرد طرف مجتمعي من بين الأطراف؟.. سيتعين على المواطن الذي لم يعد مواطنًا أن يحتمي بمجتمعه العضوي حتى من الدولة أحيانًا، فغيابها الوظيفي للناحية الإيجابية لا يعني ألّا أثر لها سلبيًا، فبإمكانها أن تبطش وتعتقل وتسجن وتقمع.

ولأسباب تاريخية موضوعية إضافةً إلى نوع النظام السياسي الجديد، برز عامل المذهب ليشكل هوية أخرى تجمع ما تفسخ من المجتمع بانهيار الدولة. فمع عجز الأجهزة الرسمية عن الحماية وتصاعد الهجمات الإرهابية والاقتتال الطائفي شُدّت الطائفة إلى بعضها لتصنع أمانًا يقيها من الآخر. ثم جاء التوزيع المحاصصاتي للمغانم والمناصب والوظائف والامتيازات ليرسّخ انتماء الفرد لمذهبه بوصفه طائفةً مستقلةً، ليقصي مفهوم الدولة من الأذهان ويجرد المواطنة من تعريفها فتحلُ الانتماءات الفرعية محل الثنائية الحديثة: الدولة/المواطن.

صارت عبارة "اللا دولة" تُردد على جميع الألسن دون تحرك سياسي واقعي يُعيد الاعتبار للدولة لكي تختفي بإثرها مظاهر اللا دولة

بهذه الخلطة التعيسة نشأت الميليشيات لا بوصفها جماعات خارجة عن القانون وانتهى، بل جماعات لها حاضنة اجتماعية تتغذى على نشاط حقيقي لا يقتصر على شعارات وتحشيد عاطفي فحسب، حتى وصل الحال إلى أن المدافع عن السيادة من التدخل الأمريكي هو "الميليشيات" المرتبطة بالخارج، والرافض للتدخل الإيراني يتعكّز على الولايات المتحدة لفرض السيادة!

اقرأ/ي أيضًا: دولة العشائر.. بين فقدان الشرعية واستثمار الهوية

مع حوادث القتل والاغتيال والاختطاف التي تجري يوميًا تطفو تلك المظاهر المتعلقة بغياب الدولة حتى صارت عبارة "اللا دولة" تُردد على جميع الألسن دون تحرك سياسي واقعي يُعيد الاعتبار للدولة لكي تختفي بإثرها مظاهر اللا دولة.

قد لا يَعجب ما سنقوله الكثيرين. يحظى جهاز مكافحة الإرهاب بشعبية كبيرة لدى العراقيين من الطائفتين نظرًا لسمعته المهنية وعدم تدخله في المشكلات الطائفية، كما لم تُسجل عليه حوادث اعتداء أو انتهاك لحرمة المواطنين؛ لكن الاعتماد غير الطبيعي على هذا الجهاز في ملفات متعددة يؤشر على أثر المحاصصة وغياب الدولة. ففي حادثة الناشط المختطف سجاد العراقي؛ أرسلت بغداد قوة من الجهاز للبحث عن سجاد في محافظة لديها من الجيش والشرطة والأمن الوطني وغيرها من التشكيلات العسكرية والأمنية ما يكفي لتحريرها من احتلال عسكري. إن عدم قدرة الجيش والشرطة على تحرير مواطن مختطف في قاطع عملياتهم دليلٌ على تأثير المحاصصة في تركيبة الأجهزة الأمنية الرئيسة وتسييسها، ذلك في حال أن الجهاز استطاع تحرير المختطف، فكيف الحال وقد فشل في مهمته وانسحب من المحافظة؟

في ذات السياق، جاء بيان العشيرة التي استنكرت "استهداف مضيفها" في الناصرية من قبل جهاز مكافحة الإرهاب ليتوّج ما ذكرناه وبطريقة مضحكة مبكية، إذ طالبت القائد العام للقوات المسلحة بسحب القوة العسكرية من منطقتها وإيقاف الطيران "فوق أجواء القبيلة"، حرفيًا. تخيّل معي هذه العبارة وهي تُدرّس في جامعات العالم عن حالة اللا دولة: الطيران الحربي الحكومي ينتهك سيادة القبيلة الجوية!.. ويا مرحبًا بديمقراطية المكونات الأمريكية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فزاعة العشيرة العراقية.. سيف المحاصصة المشهر

سياسيو العراق.. اذا بَطُلتِ الطائفية حضرت العشيرة!