24-أغسطس-2021

الغريب والمجهول والعدو هو الدولة وقيمها الحضارية (فيسبوك)

نطاعن ما تراخى الناس عنّا   ونضرب بالسيوف إذا غشينا

ورثنا المجد من عليا معدّ       نطاعن دونه حتى يبينا

نجذّ رؤوسهم في غير برّ       فما يدرون ماذا يتقونا

بشبان يرون القتل مجدًا         وشيب في الحروب مجربينا

ألا لا يعلم الأقوام إنّا             تضعضعنا وإنّا قد ونينا

ألا لا يجهلنَّ أحدٌ علينا           فنجهل فوق جهل الجاهلينا

عمر بن كلثوم

لم تبرهن الأغلبية السياسية، هي وجمهورها السعيد، بأنّها حقًا نخبة يدفعها الهم الأقصى لبناء دولة المؤسسات. ولا توجد بوادر حقيقية تنعش الآمال بإجراء أي تحول ملموس في طرق تفكير وسلوك هذه "النخبة". فثمّة تضامن مريح بينها وبين جمهورها السعيد. إنه حلف مقدس يشبه تلك الأحلاف القبلية المتينة التي كانت تٌعقد في الماضي والحاضر للحفاظ على الهوية الوجودية للجماعات المتحالفة. فالجمهور السعيد ظل وفيًا لحماسه العقائدي، الذي يجمع بين قيم العشيرة والمذهب، وممثلوه السياسيون يتشبثون بالرمز المذهبي كدعامة عقائدية متينة لضمان وجودهم مع جمهورهم السعيد. حتى لو كان الجمهور متذمرًا من ممثليه، فهذه رياح موسمية تتعرض لها الجماهير الحماسية، لكن سرعان ما تعتدل الأجواء عند كل طقسٍ مذهبي تعززه الديانة الشعبية. فـ"الزعل" بحقيقته هو زعل أحباب. إذ يبقى الميل العقائدي هو العنوان اللافت لعموم العراقيين وإن لم ينتموا لهذا العنوان أو ذاك، الذي تعززه قيم العشيرة والمذهب على حدٍ سواء وتساهم في تأصيله كثقافة اجتماعية. لذلك أن ذكر الطائفة في هذه المقالة يتساوى، من حيث الدلالة، بالعشيرة بشكل عام، مع الاختلاف بالدرجات؛ فإذا صعدنا إلى سلم السياسة فسنجد الثقافة المذهبية هي الغالبة، في حين إذا نزلنا في قاع المجتمع، فستبرز العشيرة كبنية تحتية لثقافتنا الاجتماعية. لكنهما يلتحمان في نهاية المطاف ليشكلان لحم الثقافة العراقية وسداها.

الثقافة المزدوجة جمعت الطائفة والعشيرة في مركب واحد ليظهر لنا هذه الثقافة الخطيرة التي تميل إلى تمجيد الدكتاتور متى ما كان من جماعتنا وبعكسه يغدو لعينًا

يميل الناس في العراق بشكل عام إلى فض نزاعاتهم بواسطة الأعراف العشائرية. وحتى زمن ليس ببعيد كانت المحافظات الجنوبية تنشب فيها معارك ضارية بين العشائر المتناحرة. ولم يكن النظام السابق، بكل ما عرف به من جبروت وهمجية، قادرًا على ضبط الإيقاع المنفلت للنزاعات العشائرية المستمرة، سواء كانت في الجنوب أو باقي محافظات العراق ذات التركيبة العشائرية. إن القيم القبلية التي تهيمن على مساحة واسعة من الثقافة العراقية تعتبر مقدمة لكل فساد نظرًا لممانعتها المتأصلة الجذور ضد الدولة ومؤسساتها. وقد يستغرب القارئ من هذا الاستنتاج. ليس بالضرورة أن تكون العشيرة مؤثرة بوجودها العيني، وإنما يمتد هذا التأثير في كل مسامات الذاكرة مكونًا ثقافة متأصلة لقيم العشيرة. أي أن العشيرة أضحت سلوكًا يتغلغل في كل تفاصيل حياتنا الاجتماعية والسياسية. ومنها على سبيل المثال وليس الحصر؛ إن الكثير من العراقيين لا توجد لديهم مشكلة مع الاستبداد، ولا يستغربون من عمليات السرقة المستمرة لثروات البلد، ولا تٌعد الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان من ضمن أولوياتهم. بل أن مفهوم الدولة دائمًا يشكّل تحديًا خطيرًا لوجودهم كجماعات تسعى للحفاظ على كينونتها خارج هيمنة الدولة حتى وإن كانوا من أكثر المستفيدين من ريعها. ما يهم هنا هو رسوخ ثقافة "التغالب" كما يسميها علي الوردي.

اقرأ/ي أيضًا: أحزاب "عملية" وجماهير عقائدية

فإذا أصابهم الترف، ترسّخت فيهم قيم الاستبداد، التي تضخها سلطة الريع باستمرار، وإذا أصابهم الفقر والحرمان فستكون الطقوس الشعبية والتنديد بالظالم هو سلم أولوياتهم. على ألا نفهم أن الشكوى من هذا الظالم نابعة من الإيمان بالحرية لا سمح الله! بل لأنه لم يلاءم مقاساتهم؛ فالحاكم العادل هو من يكون مطابقًا للماركة الطائفية وما عدا ذلك فهو شيطان رجيم. لأنه، وببساطة شديدة، لم يبشر النموذج الجديد بكل خير، ولم تتوفر عيّنات مغايرة عما شهدناه في النظام السابق، اللهم إلّا من حيث الدرجة. صحيح أن الناس من ذات الطائفة تتذمر كثيرًا من نظامها السياسي الذي يمثلها لكنها فعاليات لا تتعدّى لقلقة اللسان، ذلك أن الكثير منهم يفضل البقاء في الأحياء السكنية المتهالكة (مدن الحواسم التي لا تختلف عن مدن الصفيح التي كان يقطنها أجدادهم قبل سبعين سنة) على أن يفكروا بتغيير الوجوه التي ضاعفت في فقرهم. وهذه الثقافة ليست بعيدة الشبه عن ثقافة العشيرة إن لم تكن مطابقة لها تمامًا؛ فالاثنين يحركهما هم الجماعة وأولوية الحفاظ على هويتها والتضحية بكل شيء يهدد أمنها. علينا أن نبقى عقائديين أبد الدهر على أن نفكر ببناء الدولة. ذات الشعار يتقاسمه العشائريون والمذهبيون وإن كان مسكوتًا عنه باللغة المباشرة. إن الدولة بعرفهم ليست سوى غنيمة أو "مجهولة المالك" لا قدسية لها مقارنة بقدسية قيم الجماعة.

لو أظهر الدكتاتور الجديد ظلمًا أشد من الدكتاتور السابق فسنجد له عذرًا بكل تأكيد. وتلك الثقافة المزدوجة جمعت الطائفة والعشيرة في مركب واحد ليظهر لنا هذه الثقافة الخطيرة التي تميل إلى تمجيد الدكتاتور متى ما كان من جماعتنا وبعكسه يغدو لعينًا ورجيمًا. وليس عليهم من حرج فيما لو فشل دكتاتورهم العزيز إلى قلوبهم، فالعذر الشرعي حاضر وهو أنه لا يمثل الطائفة بحق. أما العشيرة فستعمد إلى نبذه عبر سياسة "كسر العصا" المتبعة في العرف العشائري للتخلّص من مشاكله. ليس إيمانًا منها بقيم العدل والسلام، وإنما للحفاظ على هويتها من الخطر الوشيك الذي يضمره الآخر لها.

إن معظم ثقافتنا تختزن في اللاشعور ذاكرة واسعة من قيم القبيلة، وهي الروح السارية في الثقافة الاجتماعية في العراق. وفي داخل الكثير منّا، وبحسب درجة تمثّل الفرد لثقافته الاجتماعية، رجل عشيرة يتنازع ويقاتل للظهور في موقع الصدارة. يظهر هذا التناقض بشكل لافت عند كل عمل سياسي؛ إذ سرعان ما تتجلى فيه علائم الاستبداد، وتبدأ الأمزجة الشخصية المعقدة في الظهور، ومنها على سيبل المثال وليس الحصر هو رفض الجمهور السياسي أن يتولّى عليهم شخص ينظم شؤونهم السياسية. إن هذه الجماعات تفضل البقاء ضمن دكتاتوريات صغيرة تعمل فيما بينها على أن يتولى منصب القيادة التنظيمية شخص واحد ذو مؤهلات. المهم في الأمر، وعلى طريقة المثل الدارج، "أنا وابن عمي على الغريب". فالغريب هنا ليس الفقر والحرمان والتهميش والإقصاء بل الغريب والمجهول والعدو هو الدولة وقيمها الحضارية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

معاركنا التي لم تُحسَم بعد

رثاثة النظام السياسي.. كراهية المؤسسة والديمقراطية