24-مايو-2022
الانتخابات

يصرح الخاسرون دائمًا بأن السلم المجتمعي في خطر إذا لم يكونوا في الحكم (فيسبوك)

لا أعرف بالضبط ما الوصفة السحرية التي صادقت عليها "المعارضة العراقية" يوم ذاك حول الديمقراطية. ما نعرفه فقط، وبشهادة فالح عبد الجبار، أنهم صادقوا عليها من منظور طائفي بحت. وهذه الشهادة لا تنفي عدم معرفتنا، لأنه سيتبادر إلى الذهن الصيغة التالية: بما أن الشيعة هم أغلب سكّان العراق فبالتالي ستجري سفينة الديمقراطية بما تشتهيه القوى السياسية الشيعية.

سواء أذعنت القوى السياسية الشيعية بالديمقراطية كونها تلبي رغباتهم الطائفية أو تقبلوها بالإكراه فسيكون مبدأ الأغلبية هو الحاكم في كل عملية ديمقراطية

 ضمن هذا المنطلق، وإن كان مشوهًا، ستكون الأغلبية الحاكمة هي أغلبية شيعية بنسبة عدد الأصوات التي تفرزها صناديق الاقتراع. ومهما كان الأمر، وبحكم الوقائع التاريخية لوضعنا السياسي، سيكون للشيعة المشاركة الأكبر في العملية الديمقراطية، وسيكون لممثليهم النسبة الأكبر في مقاعد البرلمان. المعادلة طائفية بدون شك، لكن لا أحد يمكنه التحكم بمصائر الناس السياسية في العملية الديمقراطية. بمعنى، لو احتشد الناخبون الشيعة وقرروا انتخاب ممثليهم من القوى الشيعية السياسية لما أمكن لأحد التشكيك في الانتخابات.

حتى لو لم توفر قانون يمنع المواطن من الانتخاب على أساس طائفي، فسينتخب الناس لا شعوريًا ممثليهم المرتبطين معهم بوشائج تاريخية قائمة على التضامن الطائفي. أيًا كان الأمر سيكون للشيعة الحظ الأوفر في اللعبة الانتخابية.

 فسواء أذعنت القوى السياسية الشيعية بالديمقراطية كونها تلبي رغباتهم الطائفية، أو تقبلوها بالإكراه، فسيكون مبدأ الأغلبية هو الحاكم في كل عملية ديمقراطية. بهذا المعنى لم تكن القوى الشيعية مؤهلة تمامًا لخوض غمار العمل الديمقراطي والتأسيس لهذا الحدث السياسي المهم. يكفي أن النسبة المئوية للسكان الشيعة في العراق تتربع على عرش الأغلبية، فعندها لا داعي للقلق من التشكيك بمصائر السلطة ومستقبلها المجهول.

وكما هو معلوم لا نحتاج إلى كلفة تحليلية لنكتشف مقدار التجاهل الذي أبدته هذه القوى لمستقبل العملية السياسية في العراق طالما تتوفر ضمانات طائفية صلبة بإعادة تدوير نفس الوجوه، وطالما يوجد حشد غفير من الناخبين الشيعة باعتبارهم صمام أمان للعملية الديمقراطية.

لذلك لم يكن ثمة نظرة مستقبلية لمصير القوى السياسية الحاكمة، بل لم يضعوا في الحسبان ظهور معارضة شعبية تقف بالضد من تطلعاتهم السلطوية، والإرباك الذي حصل في انتفاضة تشرين خير دليل. إذا كانت هذه الأخيرة صدمة من العيار الثقيل لهذه القوى السياسية، وإذا كانت خارج دائرة الاطمئنان التي تحظى بها القوى الفاسدة، وإذا كانت انتفاضة من داخل هذا المكون الشيعي، فما الحل يا ترى وهم لم يحسبوا أي حساب للعملية الديمقراطية كما هو معمول بها في النظم السياسية؟

بالتأكيد ستكون التصفيات، والقمع، والتغييب، والنبذ، والإقصاء، هي العامل الأساسي للحفاظ على مكتسبات القوى الحاكمة (وليس مصالح الشيعة بالتأكيد). هذه الصدمة الأولى التي تنبّه لها القائمون على الأمر من أن الأغلبية الطائفية ليست درعًا واقيًا كفاية، أي أنها ليست صمام أمان للفاسدين الذين حكموا باسم الطائفة.

لقد زعزعت الهبة التشرينية مواقع القوم وتم على ضوئها انتخابات مبكرة أفرزت عدد، وإن لم يكن بمستوى الطموح، من قوى تشرين، وهي مخاطرة سياسية من العيار الثقيل بالنسبة للقوى الحاكمة، فقد ظهرت الديمقراطية على حقيقتها: تداول سلمي للسلطة تكون فيه الأغلبية السياسية التي حازت أكبر عدد من الأصوات هي التي تشكل الحكومة.

يمكن التعبير عن الانتخابات الديمقراطية الأخيرة كونها إحياء للديمقراطية من جهة، وموت لها من جهة أخرى. من الجهة الأولى كونها عرّت ما كان يضمره المهيمنون على المشهد السياسي، وهو احتقار الديمقراطية وعدم الركون إلى مبدأ الأغلبية وتجاهل مفهوم المعارضة، ومن الجهة الثانية أنها قضت على العملية الديمقراطية وأظهرت للقاصي والداني أنه لا ديمقراطية في العراق بقدر ما يوجد نظام يصعب تفسيره طبقًا للمعجم السياسي الحديث.

لذلك، وللحفاظ على مكتسبات السلطويين، لا زالت الحرب مستعرة بين قوتين: الأولى بمكتسباتها الديمقراطية باعتبارها تشكل أغلبية في البرلمان، والثانية وفية للمبدأ الأول التي أذعنت من خلاله للعملية الديمقراطية، وأعني به الأغلية الطائفية!

لا ديمقراطية في العراق بقدر ما يوجد نظام يصعب تفسيره طبقًا للمعجم السياسي الحديث

وبهذا المنطق أكتشف العراقيون، والعالم أجمع، ثمة نظام سياسي جديد تقوم فيه الديمقراطية على مبدأ التساوي: الرابحون والخاسرون على حد سواء، وبخلافه سيتعرض السلم المجتمعي إلى خطر كما يصرح الخاسرون دائمًا.