من ضمن السرديات المٌزَيَّفَة التي نسمعها عن الديمقراطية ، هي أن الأغلبية من "الأغبياء" تتحكم بمصيرك. وقد راج هذا التوصيف خصوصًا مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، وأصبح لكل فرد سرديته الخاصة، ومنصّته الإعلامية التي يستبيح فيها لخياله ما يريد. ولا يقتصر هذا التوصيف على عامّة الناس، وإنما يتعداه للمتعلمين منهم ذوو الميول المحافظة الذين لا نعرف من ميولهم المحافظة سوى هذا التهكم المثير للسخرية على مفهوم الديمقراطية. وفي التحليل الأخير، لا مبادئ محافظة ولا هم يحزنون، لكنّ الأمر متعلق بذلك الشوق المركوز في ذاكرة الكثير لحب الطغيان. وفي السنين الأخيرة برزت سمات واضحة توحي بأحقية هذا التوصيف، من أن الديمقراطية يمكنها أن تأتي بشخص "مخبول" مثل ترامب وغيره.
يمكن تقليل مخاطر المحاصصة بزج المزيد من الكفاءات من ذوي التخصص في الوزارات لا أن تتحول هذه الأخيرة إلى دكاكين لأنصاف الأميين
وبالمناسبة، هؤلاء أنفسهم حين ينفسّون عن دونيتهم وضحالة تفكيرهم، وهجومهم المستمر على الديمقراطية، يتشبثون بما يسميه أحد المفكرين بـ"العقيدة المعاكسة" فأنت كطرف ضعيف تستهويك الفكرة القائمة على تقليد من هو أقوى منك. على سبيل المثال: حين تستشعر الجماعات الدينية خطر مصادرة الرأي تقفز فورًا إلى مقررات الديمقراطية والحرية حتى لو كانت تحتقر الديمقراطية والحرية احتقارًا شديدًا في فكرها وسلوكها. وحين أراد البولنديون التحرر من قبضة الاتحاد السوفيتي تمسكوا بحقوق البروليتاريا لكي يبدو حراكهم مشروعًا في أعين السوفيت ومن ثم نالوا التحرر الوطني الذي كانوا يصبون إليه. وكذلك الحال مع الثقافات المعادية لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، فأول اتهام سيواجه الأمريكان هو أنهم ازدواجيون، وأن أمريكا ليس بلد الحريات كما يزعمون، حتى لو كانت هذه الثقافات معادية لمفهوم الحرية، فكل هذا العداء يجري في سياق المناكدة وليس حبًا بالديمقراطية والحرية.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا ننتظر من "ِشيعة السلطة" في الحكومة الخامسة؟
وكذلك الحال مع نخبنا السياسية في العراق، حيث تغدو مفاهيم الديمقراطية "مثل الأغلبية" و"الانتخابات الدورية" و"التبادل السلمي للسلطة" و"الاحتكام للدستور"، ومن ثمّ "الحريات المدنية" التي تضمنها عادة الدساتير الديمقراطية. كل هذا وسواه يغدو مشروعًا شريطة أن تحقق الصورة المسبقة للديمقراطية: وهي حكم الأغلبية الطائفية وليس الأغلبية السياسية. ومن باب الضربة الاستباقية وعملًا بالعقيدة المسبقة، تغلق هذه النخب السياسية كل محاولة لنقد سلوكها السياسي متذرعة بالوصول إلى سدّة الحكم عن طريق صناديق الاقتراع.
والمعترضون على الديمقراطية، باعتبارها صمام أمان ضد السلطوية، يتناسون هذا النفاق والازدواجية التي تتعامل مع هذه المفاهيم النبيلة كسلاح مضاد للديمقراطية نفسها، ولا دخل للديمقراطية لا من قريب ولا من بعيد لما نراه من فوضى سياسية عارمة باسم الديمقراطية. بل ثمّة مشاكل عويصة تنتجها الديمقراطيات الناشئة، تلك الديمقراطيات التي تحاول تقليد الغرب، فتعطي انطباعًا سيئًا عن الديمقراطية، خصوصًا أن الأمريكان أنفسهم أسهموا بشكل مباشر بهذه الفوضى، من قبيل فتح الباب واسعًا، وبدفعة واحدة لجماعات هي كارهة للديمقراطية بالأصل. لذلك ما ينطبق على الديمقراطيات العريقة لا ينطبق على الديمقراطيات الناشئة بالضرورة لكي نتهمها بالقصور وعلى أنّها بديل سيئ.
مثلًا، في ديمقراطيات عريقة ومؤسسات راسخة، مثل المؤسسات الغربية التي يقدر عمرها بخمسمائة سنة، لا يشكل خطورة فيما لو تم انتخاب شخصية عادية لإدارة السلطة. لأنه، وببساطة شديدة، ثمّة رقابة شديدة من قبل المؤسسات لضبط إيقاع هذا الشخص. وبالنتيجة لا يمكنه التلاعب بمصير الأمة بحجة عدم خبرته، أو بحجة ضعف الديمقراطية. لكن لو تم ترشيح رجل من هذا النوع في ديمقراطية فتية ومتعثرة وليس لها تقاليد راسخة، فسيبدو الأمر كما لو أنه مسرحية يراد منها إثارة إعجاب الغرب، أو ليست سوى وسيلة سلطوية كما نراه في العراق. فالخبرة الإدارية، والسياسية، والتدرج الحزبي، والمهنية العالية، تبدو شرطًا ضروريًا في الديمقراطيات الفتية. وهذا ما لم يفهمه الطائفيون أبدًا، فالحل الأمثل بالنسبة لهم تلك الخلطة السحرية التي تتمثل برئيس وزراء ضعيف يقف على أرضية هشة تتلاعب به القوى النافذة.
حتى نحسم القول بالنسبة للديمقراطية "الحقيقية" والمٌتَّبَعَة، ولكي نبقى مطمئنين من صحة قولنا من إن الديمقراطية صمّام أمان ضد السلطوية، ينبغي أن تكون الشروط المعمول بها لا تقل من حيث الوضوح والشفافية المعمول بها في الديمقراطيات العريقة. وحتى لو سلمنا جدلًا بمثالية هذا المطلب، وأن قدر الديمقراطية في العراق ستبقى ديمقراطية تسويات، فعلى الأقل ينبغي أن تفرز هذه الديمقراطية خيرة السياسيين الأكفاء. بمعنى، ونحن نسلّم هنا على مضض، أنه يمكن تقليل مخاطر المحاصصة بزج المزيد من الكفاءات من ذوي التخصص في الوزارات، لا أن تتحول هذه الأخيرة إلى دكاكين لأنصاف الأميين. ولكي نقنع أنفسنا بهذا البرنامج، الذي يخفف من مخاطر "النفاق الديمقراطي" المعمول به في العراق، ولكي نغادر تلك العقيدة العكسية التي تتغطى بالديمقراطية كذبًا وزورًا، نقول: كل خطوة سياسية ما لم تتخذ من الحريات المدنية أساسًا لها فعمرها قصير وإن توهمت العكس. أللهم إلا إذا كان السياق الثقافي يعتبر الحرية مشكلة اجتماعية! لكن لا أظن أن مخلوقًا عاقلًا في هذا الكون يحتقر الحرية (باستثناء الطغاة كونهم من غير فصيلة)، خصوصًا إن كانت هناك نخبة تعدّل المسار وترجع الناس إلى رشدها. الخلاصة؛ قمع الحريات خطوة نحو الهاوية، فالحد الفاصل بين النفاق الديمقراطي، وبين السلوك الديمقراطي الحقيقي، هو حين تكتمل الديمقراطية بالحرية، وقبل كل هذا بناء المؤسسات التي من شأنها أن تحد من تغوّل أنصاف الأميين، فالديمقراطية التي يتهكم عليها الجاهلون، ويعتبرونها حكم الأغبياء، هي ديمقراطية بلا مؤسسات؛ فثمّة فارق كبير بين مؤسسات بلا ديمقراطية، وديمقراطية بلا مؤسسات؛ الأولى مفقس للطغاة، والثانية مفقس لأنصاف الأميين، فلا هذه ولا تلك ديمقراطية حقيقية.
اقرأ/ي أيضًا: