06-مارس-2022

"الديمقراطية العراقية" تمعن في تفتيت الوحدة القومية للعراق (فيسبوك)

ولربما انقضت قرون من النمو على دولة من الدول قبل أن يقال عنها "إن هذه الدولة ديمقراطية". روبرت م. ماكيفر، تكوين الدولة.

لا أحد منّا يتجرأ بالقول حول وجود ديمقراطية فتيّة في العراق، أو على الأقل بداية مشروع ديمقراطي تتبناه النخب السياسية الحاكمة. ذلك أنه لم يسبق هذه الديمقراطية المٌفتَعَلَة أي إقرار بأصل الإشكالية، أو وضع الحلول والبدائل الموازية لها، وأعني هنا إشكالية السلطوية التي تعشّش في الذاكرة السياسية العراقية، كما أنه لم يسبق هذه الإشكالية أي "ثورة" أو "إصلاح" يقضي على هذه الثقافة المتجذّرة لكي نقول إننا ديمقراطية فتيّة ونحتاج إلى فترة من الزمن لنتعافى من هذا المرض المزمن.

المضحك المبكي في هذا الشأن أن "الديمقراطية العراقية" تمعن في تفتيت الوحدة القومية للعراق عبر ضخ المزيد من الفرقة والانقسام

ذلك أنه، وبحسب روبرت م. ماكيفر، يسبق بلوغ الديمقراطية إعداد طويل لم تعرف الأنظمة الأوليغارشية مثيلًا له. ولا سبيل لانقلاب الأوليغارشية بين عشية وضحاها إلى ديمقراطية، مهما تغيّرت مؤسساتها تغيّرًا ثوريًا. ولدينا مثال تاريخي بارز بخصوص هذا الشأن، إذ اجتاز الشعب الفرنسي الكثير من المحن، ولا زال الكلام لماكيفر، وعانى الكثير من المنازعات قبل أن يبلغ نظامًا ديمقراطيًا سليمًا.

اقرأ/ي أيضًا: شيعة السلطة: صراع الدين والدنيا

فإذا كانت الديمقراطية، مثلما نفهم، تحتاج إلى مقدمات طويلة، وإعدادات ليس بالقصيرة، وجهود حثيثة للحفاظ على هذا المخاض، لا سيما في البلدان المٌصابة بفوبيا الديمقراطية والحنين إلى الاستبداد، إذ يكفي حدوث انقلاب، يكتب ماكيفر، لتتحول الديمقراطية إلى أوليغارشية. لقد اجتازت جميع أشكال الديمقراطية، يقول الكاتب، التي عرفها العالم كل هذه العمليات قبل أن تتوصل لوضع أدوات الحكم تحت رقابة جميع المواطنين. لأن الثورة لا تؤدي إلى خلق الديمقراطية خلقًا مفاجئًا، ولكنّها تؤدي إلى استبدال فجائي لنظام أوليغارشي بآخر.

إن الروح القومية تعد الرابط الأساس والبنية التحتية، إن صح الاستخدام، لنشوء الديمقراطية بشكل سليم، وبدونها ستكون الديمقراطية أحد عوامل الانقسام. ليس لأن الديمقراطية سيئة، ولا لأنها "حكم الأكثرية الجاهلة" مثلما يحلو للبعض التقليل من شأن منجزات الديمقراطية، بل لأن الأساس معدوم. يضرب ماكيفر مثالًا تاريخيًا لهذه النقطة الجوهرية، وهي أن افتقار اليونان إلى الروح القومية هو الذي شجّع التدخل الأجنبي في شؤونهم. وعاق افتقارهم لهذه الروح نموهم الديمقراطي، لأن الديمقراطية لا ترسخ في النفوس إلا إذا ارتبطت بالشعور القومي أو بوعي الشعب لوحدته.

فالديمقراطية ليس كرنفالات شعبوية ولا هي جهود ثقافية، فوعي الشعب بوحدته مُقَدَّم على الثقافة مهما علت درجتها واتسع محيطها حسب تعبير ماكيفر. ذلك أن الثقافة لم تستطع أن توحد شعب أثينا الذي لم توحده القومية. بالمناسبة قد يكون الشعب يتمتع بوعي قومي أفضل من نخبه السياسية والثقافية، أنا أشك مثلًا بأن بشار الأسد لديه وعي عميق بوحدة الشعب القومية أكثر من وعي الشعب السوري نفسه، لذلك ربط مصير سوريا وتاريخها كله بمصيره الشخصي فتحولت المعركة إلى نزاع شخصي محض يكفي أن يبقى بشار الأسد في السلطة لنثبت عمق الوعي القومي للشعب السوري!

 لا ينحصر هذا الأمر في سوريا فحسب، بل لا زال ثمّة إصرار وكفاح من قبل النخب السياسية العراقية على عدم تقويض النظام القديم بل السير على هداه وإن حاولت التنكّر له. والمضحك المبكي في هذا الشأن أن "الديمقراطية" العراقية تمعن في تفتيت الوحدة القومية للعراق عبر ضخ المزيد من الفرقة والانقسام، حتى عادت المصالح العليا للبلد منشطرة إلى ثلاثة أقسام: شيعية، وسنية، وكردية، ولكل طرف من هؤلاء الأطراف تختلف أولوياته. بل لكل طرف لديه تصور مسبق عن الوحدة القومية لطائفته! فمن هذا الجانب يمكن القول إن مصالح الجماعة الطائفية بالنسبة لهؤلاء هو بمنزلة الشرط الأساس للوعي بوحدة البلد.

التنكّر للديمقراطية بأي شكل من الأشكال يعني المصالحة الخفية مع السلطوية من خلال دعم ذرائع مُلَفَقَة وحكايات سخيفة تنسج عادة حول الديمقراطية

لماذا نشدد على الحاجة الماسة والمُلحّة لقيام ديمقراطية حقيقية في العراق؟ لأنه، وببساطة شديدة، ستأكلنا القبلية التي تشكّل المعقل والبنية التحتية لكل أشكال السلطوية في العراق. إن التنكّر للديمقراطية، بأي شكل من الأشكال، يعني المصالحة الخفية مع السلطوية من خلال دعم ذرائع مُلَفَقَة وحكايات سخيفة تنسج عادة حول الديمقراطية، من قبيل أن الديمقراطية يمكنها أن تأتي بمجانين مثل دونالد ترامب. ويتناسون أن هذه الديمقراطيات العريقة المدعومة عادة بمؤسسات راسخة لا يمكنها أن تسمح للمجانين أن يتحكموا بها بل العكس هو الصحيح. هؤلاء حين يسجلون ملاحظاتهم غير المهمة عن الديمقراطية يتشابهون، من حيث الكلام المفرغ من معناه، مع كلام كونداليزا رايس حينما قالت بالفم المليان إنهم احتلوا العراق من أجل الديمقراطية.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ديمقراطية السقيفة

في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة