20-يناير-2022

القوى السياسية الحاكمة وذات النفوذ الطائفي يأخذها الحنين إلى مكان آخر (فيسبوك)

كانت الذريعة التي أطالت أمد التعاطف الشعبي مع المعارضة العراقية هو الرفض القاطع لحكم الاستبداد. وعلى الرغم من سكوت التنظيمات الإسلامية آنذاك عن التفوه باسم الديمقراطية، إلّا أن العراقيين، والشيعة بوجه خاص، كانوا يتأملون خيرًا لو ثُنيت الوسادة لهؤلاء. فالاستنتاج بسيط للغاية: بعد حكم الاستبداد تأتي المعارضة، إن سُمِحَت لها الظروف، أن تبني نظامًا سياسيًا مغايرًا عن حكم الاستبداد السابق. نقول ذلك لأن أدبيات المعارضة العراقية كانت طافحة بالتظلم والشكوى من هذا الدكتاتور المشؤوم. صحيح أننا لا نصنف التنظيمات الإسلامية تحت فئة التنظيمات الديمقراطية، لكنّ الرغبة في التغيير، والقضاء على الطاغية، والتطلّع لحياة أفضل، وبناء الدولة العراقية، وإنهاء حكم العوائل، وإنصاف المظلومين، وغير ذلك، كل هذه الأمور كانت تدفعنا للتصديق بنهاية حقبة الاستبداد.

تبيّن أن الاستبداد معضلة كبيرة لقوى المعارضة لا باعتباره سلوكًا يهدد القيم الإنسانية بل لأسباب طائفية وشخصية

وبهذه المقدمات يمكن أن نستنتج، أن الإشكالية الكبرى التي كانت تؤرّق جميع القوى السياسية في الخارج وبمختلف توجهاتها، هي إشكالية الاستبداد. ذلك أن هذه الإشكالية تتولد منّها مشاكلَ عدّة؛ فقدان الكرامة الإنسانية، وتغييب الحريات، وضياع الحقوق المدنية، وتفشي حالة الخوف، وشخصنة مؤسسات الدولة بحيث تصبح ماركة مُسَجَّلَة باسم العائلة أو الحزب، ويدخل البلد في المجهول إلى أجل غير مُسمّى. ويمكن أن نعد الكثير من المشاكل الخطيرة المترتبة من أثر الاستبداد، والأمثلة المطروحة هي للمثال وليس على سبيل الحصر بالتأكيد. وهذه المشاكل الاجتماعية والسياسية كفيلة بأن تحرك أي تنظيم سياسي مهما كان توجهه أن يقضي على الاستبداد ويقدم نموذجًا مغايرًا.

اقرأ/ي أيضًا: في العراق: بين السياسة و"النُكتة" شعرة واحدة

والفرصة التاريخية التي توفرت لقوى المعارضة ما بعد 2003، هي فرصة استثنائية ربما لن يكررها التاريخ في المستقبل. وإذا حسبنا حجم الأموال التي تدفقت بفعل الثروات النفطية الهائلة، والتي لم تكن متوفرة للدكتاتور السابق (ربما سيشن بها حربًا ثالثة على أحد الدول المجاورة تضامنًا مع فلسطين!). بمعنى أن الظروف المثالية التي توفرت لمعارضي الأمس لم تتوفر لمن سبقهم؛ لا في العهد الجمهوري، ولا في العهد الملكي، من حيث الإمكانيات الهائلة التي أتاحها تدفق النفط. ولا توجد لدينا إحصائية رسمية إلى الآن عن حجم الأثرياء العراقيين الجدد، لكنّها ستكون أرقامًا صادمة على الأرجح.

لكنّ الخير الكثير والنعمة الهائلة التي تدفقت على معارضي الأمس كشفت لنا حجم الخديعة الكبرى، وأثبتت لنا التجربة أن الوقائع أكبر من كل الادعاءات؛ إذ تبيّن أن إشكالية الاستبداد لم تكن إشكالية تتقاطع مع المبدأ السياسي لهذه التنظيمات، بمعنى أن رفض الاستبداد لم يكن نابعًا من إيمان عميق بالحرية بل لأسباب لا تمت بأي صلة لحرية الإنسان وكرامته. وبهذه الطريقة يمكننا أن نذهب أبعد من ذلك: حتى الديمقراطية هي من حيث المبدأ إشكالية كبرى وعويصة لهذه التنظيمات! هذه ليست فذلكة نظرية أو استعراض منطقي مفصول عن الواقع، بل هذا الأخير سيّد الأدلة، وما صراع التنظيمات الإسلامية على حصص الانتخابات الأخيرة إلا دليل دامغ على اعتبار الديمقراطية ورطة كبيرة لهذه التنظيمات كما فصلناه في مقالة سابقة.

تبيّن أن الاستبداد معضلة كبيرة لهذه التنظيمات لا باعتباره سلوكًا يهدد القيم الإنسانية، بل اتضح أنه لأسباب طائفية وشخصية. حتى التظلّم باسم الطائفة أثبت بطلانه، فثمّة ملايين الشيعة الذين يسكنون الجنوب- منبع الثروة العراقية- هم أكبر ضحايا هذا النظام الجديد. وتبيّن أيضًا، أن الديمقراطية معضلة لا تقل عن سابقتها، لكنّ الأمر مختلف معها لأنها كانت مرعية بغطاء دولي، ولأنها تضمن سيادة الأغلبية الطائفية، فشرعية الديمقراطية في نظر هؤلاء تنطلق من هاتين النقطتين وليس شيئًا آخر.

إن القوى السياسية الحاكمة وذات النفوذ الطائفي يأخذها الحنين إلى مكان آخر، مكان تندمج فيه الديمقراطية والاستبداد على شكل عصيدة انتقائية ليس لها مذاق واضح، فتفرز لنا هذه الديمقراطية الهجينة وليدًا ذا ملامح مشوهة ومرعبة، يقتبس معظم "مبادئه" السياسية المدفونة في لا وعيه الطائفي، من العبارة التاريخية الشهيرة "منّا أمير ومنكم أمير". إنها ديمقراطية عراقية، يمكن تسميتها بديمقراطية السقيفة.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ورطة الديمقراطية

الواقع العراقي وشروطه المُعَقّدَة