14-يوليو-2020

تعتبر الأحزاب في العراق أن الديمقراطية ورطة (فيسبوك)

فبالنسبة إلى المجموعات الإسلامية الشيعية: إن للديمقراطية معنىً مزدوجًا تبسيطيًا: حكم الأغلبية واعتبار الشعب مصدر السلطات والتشريع. وفي أذهانهم تعني الفكرة الأولى قيام حكومة أغلبية شيعية "بصورة تلقائية". أمّا المعنى الثاني في نظرهم فإنه يمثل النقيض العلماني لنظام الحكم "الإسلامي" الذي تدعوا إليه بعض المجموعات. ويبدو إن الإسلاميين يتجاوزون حقيقية أن هناك لا زمة مصاحبة للديمقراطية هي التعددية، فضلًا عن الحقوق المدنية وحقوق الإنسان. فالح عبد الجبار- العمامة والأفندي

 تصور معي أنك مجبور على شيء لا تؤمن به. إنك تكابد معاناة من نوع خاص وهي سلطة الإكراه. هذه السلطة التي تحيل الجماعات البشرية إلى كائنات منافقة. حينما يٌكره الكائن البشري على عقيدة ما يتحول إلى قنبلة موقوتة، حيث نعثر على آية قرآنية بالغة الوضوح "لا أكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". بمعنى أن ثنائية الحق والباطل التي أسستها السرديات الدينية قائمة على معايير لا تقبل التغيير، وهي واضحها بالنسبة لمن يؤمن بها، فبالتالي "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". وما عدا ذلك سيتحول المجتمع الديني إلى مجتمع منافق فيما لو وقع تحت سلطة الإكراه على ما لا يؤمن به، وسينتهز الفرصة المواتية للتمرد على هذه السلطة المجحفة التي أكرهته على مالا يرغب.

لا تعثر على مفردة واحدة في أدبيات القوى السياسية توحي بالعمل الديمقراطي، لا في سلوكها الحزبي الخاص، ولا في سياساتها العامة المرتبطة بإدارة مؤسسات الدولة

ومن سوء حظ الشعب العراقي المغضوب عليه، أنه استبشر خيرًا بعد تاريخ طويل من الإذلال والانكسارات، وقدّم كل ما تحلم به نخبة سياسية للفوز بالسلطة، وأعدّ لذلك الحدث البهيج كرنفالات انتخابية واسعة. لكنه لم يحلم بأن من سيتولون أموره مُكرَهين على الديمقراطية. وبدلًا من ذلك شرع بعض روّاد المقاهي، بسمومهم اليومية، بالتهكم والشتم والاستهزاء على هذا الشعب المحتار من أنه لا يستحق الديمقراطية! كلنا نعلم، ما عدا بعض روّاد المقاهي طبعًا، أن الشعوب الأوروبية لم تتساقط من السماء بصناديق ذهبية، حاملةً معها رسالة الديمقراطية المجيدة، بل كل ما في الأمر أنهم وجدوا نخبًا سياسية وثقافية تؤمن بالديمقراطية. هذا هو الدرس التاريخي ببساطة شديدة.

اقرأ/ي أيضًا: بين معسكري تشرين ورفحاء: عدالة المطالب وعنف السلطة

غير أن "نخبنا" السياسية، وما يتبعهم من مطبّلين، تذوقّوا طعمًا لا يستسيغوه وهو الديمقراطية! لذلك كان على هذا الشعب المغضوب عليه أن يتعايش مع الدم والدموع بسبب سلطة مكرهة على ما لا ترغب. يتعايش مع سلطة تعاني من ورطة شديدة وعسيرة؛ إذ حتى لو قاطعها انتخابيًا، فهي، بقدرة قادر، ستفوز بعرش السلطة! ثمّة ثقافة جديدة نشأت في العراق الجديد استطيع تسميتها بثقافة الحيرة: شعب محتار ومكره على تاريخ طويل من الاستبداد ويسعى بقوة لنيل الحرية، وسلطة حائرة ومكرهة على الديمقراطية وتسعى بقوة لقتل الحرية والديمقراطية. قذف هذا الشعب، المحتار بالاستبداد، بشبابه؛ قسم في سوح القتال لتأمين الحدود، وقسم قذف بنفسه في ساحة التحرير لنيل الكرامة، وقذفت هذه السلطة، المتورطة والمحتارة بالديمقراطية، باتباعها للغدر بهؤلاء الشباب لأنّهم يجبرونها على ما تكره!

إن سلطة الإكراه تحيل الكائن البشري إلى حيوان منافق مقطوع الصلة عن حياته الطبيعية. غير أن هذه البديهة تغيب عن جماعات الإسلام السياسي. فلدينا تجربة مريرة مع هذه الجماعات، تجربة تضعنا في محاذير عديدة، وأهمها الخوف والترقب من هذه الجماعات، لأنّها جماعات مكرهة على ما تفعل. بعبارة أوضح: إنها جماعات تكابد سلطة الإكراه؛ لأنها مجبرة على الإيمان بالديمقراطية! ولا يمكننا العثور على مفردة واحدة في أدبياتها توحي بالعمل الديمقراطي، لا في سلوكها الحزبي الخاص، ولا في سياساتها العامة المرتبطة بإدارة مؤسسات الدولة. يمكنك أن تتوقع أي شيء من هذه الأحزاب إلّا العمل الديمقراطي، فالعلاقة بينها وبين الديمقراطية علاقة تضاد منطقية "ويمكن التمثيل لذلك بالحُسْن والقُبْح والحُب والبُغض والذكاء والغباء، فإنَّ كل اًّمن الحُسن والقُبح أمران وجوديّان يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد كما لا يلزم من تصوّرأحدهما تصوّر الآخر". في حين ينبغي على العلاقة بين التنظيمات الحزبية والديمقراطية علاقة تضايف وهي ببساطة شديدة تعني " تعلّق شيئين أحدهما بالآخر، فيكون وجود أحدهما سببًا لوجود الآخر". لكن أصرّت هذه التنظيمات على علاقة التضاد، علاقة لا يتوقف وجود أحد الطرفين على وجود الآخر؛ علاقة ثأر وخصومة، لا يوجد مشترك بينهما، مثلما لا يوجد مشترك بين الحسن والقبيح.

هذا التقابل المنطقي بين الأحزاب الإسلامية وقيم الديمقراطية شكّل علاقة متوترة للغاية، ذلك إن بنية هذه الأحزاب تتنافر تمامًا مع أدبيات الديمقراطية وطريقة إدارتها للسلطة. من علامات الإكراه التي تعاني منها هذه الأحزاب، تَحَوّلها من تنظيمات عقائدية سابقًا، تسعى لإنزال حكم الله على الأرض إلى تنظيمات برامجية، من حيث المبدأ؛ فشعارات "الموت لأمريكا" و"الشيطان الأكبر" تحولت إلى ثرثرة خطابية خالية من أي مضمون، إذ يمكن لهذه التنظيمات من تسميم جمهورها العقائدي بهذه الهلوسات الشعاراتية، لكنها لا ترى بأسًا للجلوس مع السفير الأمريكي لتسوية أمر الحصص الحزبية. إنها أحزاب براغماتية فيما يخص السلطة حصرًا، وما عداها تتحول إلى خصم لدود لقيم الديمقراطية. وإذا تعكّرت مياه المودة بينهما فسيهرول المهرولون إلى جارتنا التاريخية لتسوية بعض التوازنات خوفًا من بعض الإكراهات الديمقراطية.

أما السيادة، والمواطنة، والتداول السلمي للسلطة، فهي قضايا عرضية؛ ذلك أن الأعراض زائلة والجوهر باقٍ. إن الجوهر قائم بنفسه ولا يحتاج إلى غيره. ما الجوهر هنا؟ إننا باقون في السلطة رغم إكراهنا على لعنة الديمقراطية. ظلت هذه التنظيمات في حالة "بين بين"؛ لا هي أحزاب دينية على وجه واضح، ولا هي أحزاب ديمقراطية؛ حالة بين الحياة والموت، أنها تشبه كائنات الزومبي الأسطورية، ما إن يعضّك أحدهم حتى تتعرّض لعدواه؛ يمكن لمصاب واحد أن ينشر عدواه إلى أكثر من مجموعة، ولذلك شاهدنا، حتى التنظيمات التي يحلو لها التغني بالديمقراطية وقعت في فخ الإكراه هذا! أكثر من ذلك، بل تعرضّ بعض الإعلاميين والكتبة للعضّ الاختياري! فأصبحوا يسيرون في ركاب السلطة، إذ بات من الصعب تمييز العدو من الصديق. وأصبح مشاهيرنا ونجومنا من فصيلة هؤلاء. يالها من سنينَ عجاف! ياله من زمن غادر! إنه زمن، كما يصفه أحد الفلاسفة، أصبح من العسير فيه أن نميّز بين الذئب والكلب.

على أيّ حال، إن سلطة الإكراه تتوالد فيما بينها وتنتج لنا مسوخًا مخيفة لا يمكنها الانتظار طويلًا حتى ترجع لطبيعتها. لم تحتمل هذه التنظيمات ضغط الديمقراطية، فأحالت البلد إلى خراب، والشعب إلى جماعات تنتظر في طابور الموت الطويل، والحدود إلى جسد ممزق. ولكي تكتمل حالة التمرد "الثورية" على أسس الديمقراطية، بدأت مفاقس التنظيمات الحزبية تولد لنا ميليشيات حزبية، وتَحَوّل الجيش إلى ثكنة تدار من قبل "القائد الضرورة" كانت أثمانها باهظة وقاسية كلفتنا ثلاث محافظات بالتمام والكمال! ذلك أن بناء منظومة عسكرية وطنية آخر هموم المكرَهين على الديمقراطية. فالبلاد والعباد والمؤسسات زائلة، وهذه التنظيمات باقية ولها من يحميها ويغذي جبروتها.

ثمّة كابوس جاثم على هذه الأحزاب اسمه الديمقراطية، وثمّة ضريبة باهظة يدفعها العراقيون، ولا زالوا يتساءلون: ماذا فعلنا لهذه الأحزاب ليتم التنكيل بنا بهذه الطريقة المروّعة؟!

إن كان ثمّة توصيف يليق الديمقراطية في العراق فهو الورطة! لقد تورطت هذه الأحزاب بهذا الكابوس المروّع، هذا الكابوس الذي لم تستيقظ منه هذه الأحزاب بعد، وهو يتسلل إلى كل تفاصيل حياتنا. تصور! ثمّة كابوس جاثم على هذه الأحزاب اسمه الديمقراطية، وثمّة ضريبة باهظة يدفعها العراقيون، ولا زالوا يتساءلون: ماذا فعلنا لهذه الأحزاب ليتم التنكيل بنا بهذه الطريقة المروّعة؟! والجواب: نحن التنظيمات الإسلامية متورطون بالديمقراطية ومكرهون عليها، ومن  يُكره على أمر يحرق الأخضر واليابس، فلا تنتظروا منّا سوى الخراب والموت الوشيك، فإما الموت أو السلطة، فالسلطة لنا والموت لكم. خصوصًا أن ثقافة الشهادة لها وقع سحري في وجدان البسطاء، فيمكن القول إن هذه السلطة المتورطة بالديمقراطية، لا سبيل لها سوى إعادة  إنتاج مفهوم الشهادة في مخيلة البسطاء للثأر من الديمقراطية!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

قراءة في أسباب فشل النظام السياسي العراقي

نزيف الدماء "السلبية" واغتيال الديمقراطية