13-يوليو-2020

الوقوف ضد القمع والاعتداء على المتظاهرين سيكون مفيدًا على المدى البعيد (Getty)

 يبرز التحدي الأكبر لقوى وتنظيمات وفئات وجماعات متناقضة المصالح والرؤى حين تتعرض إحداها لظلم أو تعسف، أو تدخل في مواجهة مع السلطة بعد ثورة أو انتفاضة شعبية أو تغيير في رقعة الشطرنج يغير معه القواعد القديمة أو يحاول التمسك بها، ويكون الامتحان الديمقراطي هو الأصعب عادةً بالمقارنة مع الاصطفافات الحادّة في الأنظمة الديكتاتورية أو الديمقراطية الطائفية أو ديمقراطية الحزب الواحد، وفي التجارب العربية العديد من الأمثلة لحالات أخفقت القوى المختلفة آيديولجيًا في التمسك بالديمقراطية مرات كثيرة ونجحت في مرات أقل.

حق التعبير السلمي هو هدف قائم بذاته ضد إيغال السلطة في القمع بغض النظر عن هوية الجهة المحّتجة

زاد القمع الذي مورس ضد المحتجين في الأول من تشرين الأول/أكتوبر الماضي حنق الشباب الغاضبين أصلًا على تردي الأوضاع الاقتصادية والخدمية والسياسية والفساد الذي أزكم الأنوف وبات قبيحًا وأكثر وضوحًا في عهد رئيس الحكومة المخلوع عادل عبد المهدي، وما زاد الطين بلّة، الاستجابة شبه المعدومة لأحزاب السلطة ومجلس النواب الذي لم يحرّك ساكنًا اتجاه قضايا المتظاهرين وقمعهم حتى استِقالة الحكومة. وبات الفرزُ واضحًا بين معسكر يضم ما اصطلحنا عليه المواطن/المحتج وبين معسكر السلطة وقاعدتها الجماهيرية.

اقرأ/ي أيضًا: نزيف الدماء "السلبية" واغتيال الديمقراطية

لم يتغير حال المعسكر الأول بعد تشكيل مصطفى الكاظمي حكومة ما بعد الانتفاضة، فَهُم بين مترقبٍ لأداءها ومنتظرٍ لتنفيذ مطالبه ومن يثنيه وباء كورونا عن استئناف احتجاجه، مع وجود تظاهرات واعتصامات متقطعة في أنحاء مختلفة خاصةً في المناطق الجنوبية. وفي المعسكر الثاني، هناك من يترقب خطوات الحكومة وإمكانية أن تطاله عصا الإصلاحات إن بدأت بالضرب كما تطالب غالبية المجتمع. ومع أول احتكاكٍ ليس بالكبير، حيث أوقف الكاظمي الرواتب المزدوجة لمحتجزي رفحاء، حشّد هؤلاء أنفسهم مستندين على دعمٍ من قوى سياسية كانت قد نظّمت لهم امتيازاتهم قانونيًا، وقَدِموا بالآلاف إلى بغداد للاحتجاج على قرار الحكومة لتردّ الأخيرة بمنعهم من الدخول. ورغم نفي الناطق باسم القائد العام للقوات المسلحة استخدام الذخيرة الحية لتفريق المحتجين إلا أن صوت الأسلحة سُمع في مقاطع فيديو نُشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مع استخدام الهراوات لمنعهم من التقدم عنوةً.

على عكس "صمت القبور" الذي أطبق على جناحٍ واسع من أحزاب السلطة أثناء قمع منتفضي تشرين، وتوظيف أجهزة الإعلام الخاصة بها ـ بما فيها إعلام الدولة الرسمي ـ في تخوين المتظاهرين وتسخيف مطالبهم والقفز على تضحياتهم، إلا أنهم أظهروا عطفًا أبويًا كبيرًا مع مطالب "الرفحاويين" والسجناء السياسيين وما حدث لهم مؤخرًا، رغم تأكيد الطيف الأوسع من المجتمع والنخب على اللا عدالة في رواتبهم. وتحوّل أحد التحالفات الكبيرة إلى مركز صحفي استقصائي يراقب برقيات العمليات الأمني ويحلل "النوايا المبيتة" للحكومة في الاعتداء على المحتجين.

مع ذلك، يجب التوقف عند ازدراء شريحة من المواطنين منهم متظاهرو تشرين والمتعاطفون معهم وشماتة البعض الآخر بما حصل للرفحاويين، وذلك أهم من تناقض ردود فعل الأحزاب المذكورة مع التظاهرتين، فالأخير ليس غريبًا، وإشارتنا له من باب التأكيد على صفاقتهم والنفاق الذي مارسوه بكلتا الحالتين.

لكن هل يجب أن نؤيد القمع؟

من وجهة نظرنا كدعاة دولة وطنية ديمقراطية، لسنا من مؤيدي القمع والاعتداء على المتظاهرين لأسباب كثيرة وبعضها يتعدى مسألة المصلحة الذاتية، فالزاوية التي ننطلق منها في النظر إلى مثل هذه الأمور لا تقتصر على الجانب السياسي والديمقراطي، بل الاجتماعي والإنساني الذي يغذّي من الأسفل بذورًا تتعلق بامتهان الفرد واحتقاره من قبل السلطة تثمر عن عوامل في الأعلى تؤثر على مسار الدولة كلها.

ولناحية المصلحة الذاتية لنا كمجتمع المواطن/المحتج الذي اتخذ مسار الاحتجاج وسيلةً للإصلاح وبالتحديد بعد يأسه التام من إمكانية شروع النظام بإصلاح ذاته، والقمع الذي تعرّض له دون أي سبب مُقنع، فأن حق التعبير السلمي هو هدف قائم بذاته ضد إيغال السلطة في القمع بغض النظر عن هوية الجهة المحّتجة. كما أن التشبّث بالقيم الديمقراطية للانتفاضة ثم التخلي عنها يضر بالاتساق مع النفس.

لقد تعاطفت الشريحة الأكبر من المجتمع مع تظاهرات تشرين فور تعرّض شبابها للاعتداء الدموي، بل أن القمع زاد من حيويتها، إضافةً إلى تمسكها بالسلمية، ومطالبها العادلة. ومن الطبيعي أن تفرز نوعية المطالب وعدالتها الناس إلى معسكرات، وهي حالة طبيعية، ولسنا مضطرين للتعاطف مع مطالب الآخرين، بل قد يكون التعاطفُ ادّعاءً، لكن الشرط الذي يضع حدًا دقيقًا فاصلًا بين موقفين، هو أن اللا تعاطف سببه لا عدالة المطالب، وليست هوية المتظاهرين. فبالإمكان من جهة، الوقوف ضد مطالب محتجين من نوع ما، فئوية كانت أو عامة، والوقوف مع حقهم في التظاهر وعدم الاعتداء عليهم، من جهة أخرى. ففي الحالة الأولى يُمكن تقسيم التظاهرات إلى معسكرات لناحية مطالبها، وفي الحالة الثانية سيكون من العبث السكوت أو الفرح بالاعتداء على متظاهرين. من الخطأ تقسيم التظاهرات كشكل ديمقراطي من جانب حفظ حقوق الإنسان والمواطن، وقد يولّد فرح الجماعة (س) بضرب الجماعة (ص) من قبل السلطة، بالمقابل، فرحًا معاكسًا بالاتجاه، إذا ما استأنفت الجماعة الأولى تظاهراتها. ينبغي التمييز بين انقسام طبيعي وآخر سلبي.

الدفاع عن حق التعبير والتظاهر لمن نراه باطلًا، ليس ترفًا رغم ما يبدو عليه للوهلة الأولى، وإنما فكرة تحتاج التجذير بالنشاط المتواصل والنضوج التدريجي

ولكي لا نكون مثاليين ونضخّم من النتائج المترتبة، نقول إن لدينا تجربة مع رئيس الحكومة الأسبق حيدر العبادي الذي لم تكن ولايته بسوء التي سبقتها ولحقتها، لكننا ـ والمسألة شخصية وبسيطة ـ وقفنا بالضد من تجديد ولايته حالما قُمع شباب البصرة المطالبين بأبسط الخدمات بهدف أن يكون عبرةً لمن يأتي بعده. والذي حدث بعد ذلك أن خَلفه كان الأكثر سوءًا بين سابقيه لناحية التعامل مع المتظاهرين والعنف الممارس ضدهم.

اقرأ/ي أيضًا: انتفاضة تشرين: البحث عن ممكن

بكلمات أخرى، لن تزدهر الديمقراطية وتُحَل مسألة القمع اتجاه التظاهرات بمجرد وقوفنا ضد الاعتداءات؛ لكن يجب أن تثبت هذه الفكرة، وهي مفيدة على المدى الطويل، ومن هذا الجانب بالذات نُطالب مرارًا بمحاسبة قتلة متظاهري تشرين.

نعم، هنالك الكثير من الغضب اتجاه امتيازات السجناء السياسيين بسبب الحالة الاقتصادية المتردية التي نعيشها، وقد بدأ الناس يميزونهم عن بقية شرائح الشعب، وعزز دفاع الأحزاب عنهم من هذه الاصطفافات أكثر، وزاد من كره المواطنين لهم، واعتبارهم جزءًا من المنظومة السياسية وليسوا مواطنين أولًا.

إن الدفاع عن حق التعبير والتظاهر لمن نراه باطلًا، أو مطالبه غير عادلة، ليس ترفًا رغم ما يبدو عليه للوهلة الأولى، وإنما فكرة تحتاج التجذير بالنشاط المتواصل والنضوج التدريجي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

دماء تشرين والهاشمي: ألا تكفي لفرض حالة الدولة؟

قراءة في أسباب فشل النظام السياسي العراقي