06-ديسمبر-2021

الواقع خارج ثنائية التفاؤل والتشاؤم (فيسبوك)

"المتشائم يشتكي من الريح؛ والمتفائل يتوقع أن يتغير الجو؛ والواقعي يضبط الأشرعة". وليم آرثر وارد

الأمر قديم وليس جديدًا على الإطلاق: الواقعيون أكثر الأفراد عرضةً للنفور والعدائية. إن لم تكن منساقًا مع جمهور التفاؤل والتشاؤم فأنت في عداد المغضوب عليهم، لأنك اخترت العصب الأكثر حساسية: استفزاز عادات الناس الراسخة، وهذه العادات بمنزلة الكاشف لهم عن الواقع. كلما جعلت الناس يفكرون ازدادوا عدائية ضدك لأنهم يشعرون كما لو أنك تسلخ جلودهم وهم أحياء. 

 التنظيمات السياسية الناشئة بحاجة إلى تجارب ضخمة لتثبيت أقدامها في أرض العراق الهشّة في العمل السياسي من جهة والجمهور الصعب المراس الذي يمكنه أن ينقلب في أي لحظة

 وبعيدًا عن هذه التهديدات! إن التفاؤل والتشاؤم لا يغيران شيئًا من هذه الحقيقة: إن الواقع خارج ثنائية التفاؤل والتشاؤم لو كانوا يعلمون. لأنه، وببساطة شديدة، سننظر للواقع من خلال مخاوفنا وقلقنا وتعاستنا، فستزداد الفقاعة أكثر من ذي قبل، وأين ما تتوجه بوصلة تفكيرنا فمن المؤكد أنها ستكون بوصلة مضطربة إذا تم إخضاعها للأحكام الثنائية.

اقرأ/ي أيضًا: في العراق: التاريخ يعيد نفسه ألف مرة

والعمل السياسي لا يشذّ عن هذه القضية، أي أننا لو أخضعنا تفكيرنا لمنطق الثنائيات سنكون جرّدناه من أعظم أدواته، وهو الموضوعية. ولكي نكون موضوعيين ينبغي أولًا محاربة هذا النزوع المثالي الذ نبديه تجاه الواقع. وهذا النزوع ممكن أن يكون تشاؤمًا مفرطًا أو يكون تفاؤلًا حالمًا، لدرجة أننا سنصاب بالإحباط والانكسار لو لم يتحقّق في الواقع.

 الأمل الزائف واليأس كلاهما من جنس العدمية؛ ذلك أنهما يصوران وجودًا زائفًا محلومًا فيه. ما العمل إذن؟ أن ننظر إلى الشروط التي كوّنت واقعنا العراقي، وأن لا نسقط عليه أمنياتنا الحالمة وتعاستنا وسوداويتنا، ونفترض تصورات غائبة ونماذج معدومة كليًا. وجزء من معاناة الإنسان وعذاباته التي لا تنتهي هو إخضاع الواقع لتوقعاته، فتغدو الحياة الاجتماعية والسياسية رهينة بتوقعاتنا الشخصية.

صدقوني لا أتكلم هنا عن عموم الناس، وإنما يتسرّب هذا السائل إلى أفكار ونفوس الكثير من المتعلمين. إنهم يجعلون من نزوعاتهم النفسية شروطًا لفهم الواقع! وبهذا تتحول رغباتنا الجامحة التي تفتقد إلى أدنى درجات التمكين، إلى براهينَ منطقية وواقعية، فنتّخذ من العزلة ملاذًا لنا بعد الاصطدام بصخرة الواقع الصلدة. لكن كل أنواع الملاذات؛ أضرحة مقدسة، أماكن هادئة، زوايا مهجورة، تكايا للأولياء، يمكنها أن تطرد مخاوفنا، بيد أنها لا تفعل شيئًا تجاه آلامنا، أي أن الألم سيبقى يطاردنا "كما تطارد العجلة حوافر الثور".

ضمن هذا الاستنتاج لا يبقى علينا سوى التنازل عن أحكام القيمة، والنظر للواقع فيما وراء الخير والشر. من ضمن الفوائد المهمة لعبور مثل هذه الثنائيات أن صراعتنا ستكتسب طابع الجِدّة والمسؤولية، ولا تتحول إلى صراعات عشائرية.

هناك من يتخذ من العلمانية خطوة كفاحية، ويعزّز من هذه الخطوة النماذج التاريخية المجاورة لحضارتنا. وهناك من يطالب بنمط من الحريات يحتاج عدّة قرون لكي يأخذ صيغته القانونية، خصوصًا أن الأحزاب الدينية في العراق عزيز على قلوبها أن تحافظ على الثوابت الاجتماعية في العراق باستنثاء الفساد طبعًا. وهناك من يحلم بسن قوانين تقدمية، كما لو أن سن القوانين سيجعل من الواقع عالمًا ورديًا. وإن كان ثمّة معاناة تكابدها ثقافتنا هي التنكر والاحتقار لحكم القانون، والنزاعات العشائرية أنموذجًا.

إلّا أن الواقع لديه ما يقوله بمعزل عن هذه الثنائيات: هنالك مؤسسات منهارة، وفساد سياسي وإداري، وتردٍ للقطاع الخدمي والإنتاجي، إن لم يكن معدومًا، يقابله مجتمع مضطرب ومنقسم على نفسه. لا سيما أن التنظيمات السياسية الديمقراطية لا زالت في خطواتها الأولى، وهي بالتدريج تكتسب حاضنة شعبية تؤمن بالديمقراطية. لكنها بحاجة إلى تجارب ضخمة لتثبيت أقدامها في أرض العراق الهشّة في العمل السياسي من جهة، والجمهور الصعب المراس الذي يمكنه أن ينقلب في أي لحظة.

 كل هذا الخراب وغيره لا يمكن للأفكار "النقدية" وحدها أن تعمّره مالم تكن الخطوة الأولى هي التغيير السياسي كما ذكرنا في عدّة مقالات. أما عشّاق ثنائية التفاؤل والتشاؤم الذين يشتمون الشعب ليل نهار لأنه لا يغازل رغباتهم، فهم استثناء من هذا الكلام. المشكلة ليست هنا بالتحديد، وإنما في الناس التي تظهر عدوانية غير مسبوقة لمجرد أن تذكّرهم بشروط الواقع المعقّدة، فيتناسون المشكلة وتغدو، بقدرة قادر، أنت المشكلة! لكنّهم يخترعون وسائل تعبيرية مزيفة لتغدو حججهم "عقلانية" ومقنعة.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تضامنات سياسية مٌزَيّفَة

الأغلبية الوطنية والأغلبية التوافقية