01-ديسمبر-2021

الممانعة كلما طال أمدها تحوّلت إلى حاضنة للطغيان (فيسبوك)

"البشر لا يهجرون الجحيم إلّا لإعادة إنشائه في مكان آخر" أميل سيوران.

ما يثير إعجابي في الحضارة الغربية هو النقد والتجاوز واستلهام العبرة من التاريخ. فمن النادر أن تعثر في الحاضر الغربي على تكرارات تحمل نسخًا مطابقة من الماضي. إنها حضارة الاختلاف والتجاوز ونقد الذات. ومن جهة أخرى نعثر هنا في منطقتنا على هوس غريب في تكرار الماضي لدرجة الارتياب من الحاضر، حيث أصبح الحاضر من جنس الوافد، وهذا الأخير أحد مصادر الريبة والقلق في ثقافتنا الحالية.

الممانعة كلما طال أمدها تحوّلت إلى حاضنة للطغيان، بل تتحول إلى مراكز تجارية ضخمة

ويوم كنّا صنّاع الحضارة وأحد مؤسسيها كان الوافد والغريب مصدر فضول وشغف كبيرين، لا بل من دعائم ثقافتنا. حتى هذه اللحظة حين نذكر الفاررابي، وابن سينا، والرازي، وابن الهيثم، وغيرهم الكثير، نذكرهم باعتبارهم جزء من هويتنا الحضارية. ولمجرد أن انتقلت الحضارة، مكانيًا، في أوروبا، وبدأت حقبة الاستعمار الأوروبي، تشّكل وعيًا جديدًا قوامه الريبة والاستعداء لكل ما هو غريب، وعلى وجه الخصوص الغريب الأوروبي. فالصينيون كانوا ولا زالوا صديقنا الذي يشاركنا نفس الخط الحضاري، ولم يسجل قاموسه التاريخي حركة استعمارية تجاهنا، بل تجاه العالم ككل، علمًا أنهم كانوا متمكنين بأسطولهم البحري، وكانت تجيز لهم قوانين البحار آنذاك  الهيمنة متى شاءوا.

اقرأ/ي أيضًا: لعبة الابتزاز والضغط: انسداد سياسي أم سرطان مؤجل؟

المهم في الأمر، أن التحولات التاريخية الكبرى التي حدثت في هذا العالم قلبت معها الموازين رأسًا على عقب، وبدت فيه المعمورة كما لو أنها قرية صغيرة، بل زقاق ضيق المساحة في حي شعبي، ولمجرد أن تخرج من معادلة الدول الكبرى فستندرج في عداد الدول الفاشلة، وتوضع على لائحة الإرهاب؛ أما أن تنخرط في هذه المنظومة العالمية وتستثمر الهامش المتاح لك للعب والمناورة، أو تقع ضحية أدبيات لم يعد لها جمهور كبير، وستكون خسائرها على المستوى البعيد فادحة ومكلفة.

لم يعد للممانعين مكانًا يمكنهم أن يترجموا فيه أدبياتهم، إذ تبقى هذه البقع الهامشية في الخارطة السياسية أماكن قلقة وتقف على أرض هشّة، ولا سبيل أمامها سوى قلب المعادلة. إن الممانعة كلما طال أمدها تحوّلت إلى حاضنة للطغيان، بل تتحول إلى مراكز تجارية ضخمة، وتكون المعادلة كالتالي: رؤوس كبيرة للمتاجرة بالقيم الوطنية، وجمهور فقير جاهز للذبح في أي وقت.

ما الهامش المتوفر لكي تترجم دوافعك الوطنية بصدق؟ سواء قبلنا أم لم نقبل بهذا النظام السياسي، فالديمقراطية هي الهامش الوحيد الذي تمكّنك من إطالة أمد حياتك السياسية. هذه هي أصول اللعبة. ومن المرجّح أن قوى سياسية فهمت هذه اللعبة جيدًا، وهي تحاول جاهدة استثمار الديمقراطية لأقصى مدى ممكن، وهذا الترجيح يرتبط بسلوك الصدريين مثلًا، خصوصًا في فوزهم الانتخابي الأخير.

مهما كانت صيغة الاختلاف والريبة التي نبديها للحركات الدينية في العمل السياسي، يمكننا أن نتمسك بهذه الريبة، وبنفس الوقت نبقي على هذا الترجيح أعلاه. على الأقل يساهم هذا الترجيح في دعم فرضيتنا حول بعض القوى السياسية التي فهمت لعبة الديمقراطية، وأنه لا منفذ يمكنها المرور من خلاله إلا العمل الديمقراطي، وليست الممانعة على طريقة أخوة السلاح.

أما الرهان على هذه الازدواجية الغريبة، "قدم هنا وقدم هناك"، لا تعمل في عالم آخذ في تقريب المساحات؛ فالعراق بالنسبة لإمكانيات الدول الكبرى، عبارة عن بلدة صغيرة. ومن الصعب للغاية إطالة أمد المناورات المكشوفة.

هل ثمّة إمكانية من أخذ العبرة من التاريخ؟ يخبرنا تاريخنا السياسي على أننا تلاميذ سيئون بل حمقى في استلهام الدروس من الماضي. فيتحول الحاضر إلى فصل دراسي مكرور وملل ونسخة مشوهة من الماضي. كما لو أن التكرار أصبح هوية سياسية راسخة، وأعني بالضبط إعادة تدوير الاستبداد بأشكال تعبيرية مختلفة.

المحكومون بإعادة الماضي وتكراراه آلاف المرات، هل سيفهمون اللعبة؟ لا أظن ذلك، فلحين بلوغهم مرحلة النضج، والحكمة، والتبصر بحقائق التاريخ، تكون الفرصة قد ضاعت من أيديهم. الحمقى محكومين بتكرار الماضي، والتعساء مثلنا محكومين بتكرار الأسى كل مرة، لكنه تكرار ليس باختيارنا على الإطلاق، فإذا اعترضنا سنموت حتمًا.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

تضامنات سياسية مٌزَيّفَة

الأغلبية الوطنية والأغلبية التوافقية