"لا أتمنى أن يكون الآخرون منصفين تجاهي: أستطيع أن أستغني عن كل شيء إلا عن الطاقة التي يمنحها الإحساس بالظلم". إميل سيوران، مثالب الولادة.
دائمًا نكرر هذه الحقيقية التاريخية بأشكال تعبيرية مختلفة: إن السياسة هي الحد الفاصل بين الأقوال والأفعال. وإذا شئنا تعريف الممارسة السياسية، وبشكل إجرائي، فهي محاولة ترجمة أقوالنا السابقة إلى أفعال لاحقة. فالجماهير، على أي حال، لا تبهرها الصياغات المنطقية الجافة، بل تحتاج إلى حزب يترجم آمالها في العمل السياسي لكي يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من هذه اللوائح الطويلة المُنمّقة بالشعارات المثالية.
الديمقراطية تعني الحد من الاستبداد والقوم ليسوا مستعدين لخوض هذه الفكرة التقدمية والتي تتعارض مع ذاكرتهم الطائفية
ولقد سقطت بعض التنظيمات والأشخاص في هذه اللعبة واستفزت جماهيرها مرتين؛ مرة حينما أدعت أنها تنظيمات سياسية واتّضح فيما بعد أنها مُسَيَّسَة ترتهن بالإرادة الخارجية، ومرة حين كذّبت على هذه الجماهير المغلوب على أمرها يوم أغرقتهم بعسل الوعود.
اقرأ/ي أيضًا: عن خياراتنا الصعبة
وما نشاهده اليوم في وضعنا السياسي المضطرب يتّضح أن القوم مصرّين على الاحتفاظ بشخصية الحكواتي القديمة، أو ذهنية "الناعي" الذي يعمد بين الحين والآخر إبكاء الحاضرين حتى لو كان على حساب تجهيلهم. وعموم الأحزاب المتواجدة في الخضراء لا تشذّ عن هذه القاعدة إلا من حيث الدرجة والتوجه العقائدي.
المشكلة هذه التنظيمات السياسية أنها لم ترفض الاستبداد طمعًا بالحرية، ولم تنخرط في التغيير السياسي إيمانًا منها بالديمقراطية، يظهر أنه لا عوامل موضوعية لعبت دورًا في معارضة الاستبداد السابق بقدر ما كانت عوامل شخصية، أو صراع على السلطة، إذ لم تحدث هذه التنظيمات قطيعة حقيقية مع ماضي الاستبداد لكي نقتنع حقًا بموضوعية هذا الصراع. ولذلك هي في ورطة كبيرة اسمها الديمقراطية، ذلك أن هذه الأخيرة تعني الحد من الاستبداد، والقوم ليسوا مستعدين لخوض هذه الفكرة التقدمية، والتي تتعارض مع ذاكرتهم الطائفية، اللهم إلا من حيث كون الديمقراطية تضمن لهم النفوذ بحكم الأغلبية الطائفية.
وبالمناسبة حتى الأقليات السياسية، مثل السنة والكرد، لا تحترم الديمقراطية على الإطلاق، فهي على استعداد لتقبّل الاستبداد شريطة أن يضمن لهم حصصهم. الشيعة قبلوا بالديمقراطية بحكم أغلبيتهم الطائفية، والسنة والكرد قبلوا بها على مضض لكنها تضمن لهم حصصهم. لا أحد من هذه التنظيمات العقائدية يؤمن بمفهوم الأغلبية السياسية، فهذه الأخيرة مكلفة جدًا وغامضة وتقودهم نحو المجهول وتضيّق دائرة النفوذ.
ولأن الديمقراطية معضلة كبيرة بالنسبة لهم، كما نوّهنا مرارًا وتكرارًا، لذلك يحاولون بكل الطرق الملتوية الإجهاز على الشرعية الديمقراطية. فالصراع المحموم على النفوذ بين أبناء المذهب الواحد، بفضل الديمقراطية طبعًا، يكشف لنا مقدار الزيف الذي تقوم عليه التضامنات الطائفية. المصالح الحزبية والشخصية هي المقدمة على كل شيء في أدبيات هؤلاء.
أكثر من ذلك: ترتسم الملامح العامة للمذهب، ويتمّ تعريف الشخص الذي يتمتع بأصالة مذهبية من غيره اعتمادًا على شرط مهم وجوهري، وهو عدم الممانعة في تقسيم الغنيمة وما عداه فسيكون خارج المذهب وإن لم يتم التصريح بشكل مباشر، خصوصًا إذا كان الخصم يمتلك نفوذًا واسعًا، مثلما يحدث الآن بين القوى الخاسرة والقوى الفائزة.
في ضمير الطائفيين تغدو الطائفة شرطًا مسبقًا للديمقراطية إن لم تسعفهم الحظوظ للفوز بالحصص الكافية والموارد اللازمة، أما في حالات الفوز وضمان الهيمنة فترجع الديمقراطية كشرط مسبق لكل عملية سياسية. من هذه الناحية تتحول الديمقراطية في العراق ضحية مناورات سياسية؛ الكل يضمر لها العداء والكل يهوي إليها حين تعتريه نشوة الانتصار!
على سبيل المثال وليس الحصر، لا الحلبوسي ولا الخنجر، كما لا الصدر ولا المالكي، وكذا البرزاني وطالباني، استطاعت الأساطير الطائفية أو العرقية أن تجمعهم على كلمة سواء. وما تخبرنا به الوقائع السياسية، وليس أحلام الطائفيين المثالية، أن أبناء المذهب الواحد يمكن أن تفرّقهم الاختلافات السياسية، وتوحّدهم الموارد الاقتصادية، ويتوحد كل الفرقاء السياسيين، سنتهم وشيعتهم وكردهم، على اقتسام الذبيحة.
كل ما في الأمر أضحت الطائفة ومقولاتها ملاذًا للخاسرين؛ إذا ما خسر فصيل سياسي في الانتخابات وكان فارق الأصوات كبيرًا لدرجة أنها لا تضمن له حصة كبيرة من كعكة التوافق، أخرج ما في جعبته من حميميات طائفية مزعومة، وبقدرة قادر تغدو الطائفة قدس الأقداس في وجدان الخاسرين. لكن سيختلف الخاسرون مستقبلًا فيما بينهم لو ابتسم الحظ للبعض منهم في الانتخابات القادمة، وتتراجع الطائفة في المقام الثاني، ولا يحتاجونها إلّا لتثوير همم الفقراء.
هذا الديكور الطائفي لا بدّ منه لاستمالة مشاعر بعض الناس، التي لا زالت تعتقد أن نجاتها السياسية مرتبطة بعزّ الطائفة، رغم الخراب الذي أحدثه المتباكون على الطائفة. بل هنالك من يذهب أبعد من ذلك: ما دام سياسيو"الطائفة الحق" هم القوة المهيمنة في الدولة العراقية، فسنغفر لهم كل فجائعهم، وسرقاتهم، وصراعهم على الموارد، فهذه الأخيرة تذهب والمذهب باقٍ. ربما لأن الدولة في عرفهم الشرعي "مجهولة مالك" ويحق تدميرها وسرقتها؟ أمامنا متّسع للإجابة عن هذا السؤال عبر البحث والتنقيب.
أبناء المذهب الواحد يمكن أن تفرّقهم الاختلافات السياسية وتوحّدهم الموارد الاقتصادية ويتوحد كل الفرقاء السياسيين، سنتهم وشيعتهم وكردهم على اقتسام الذبيحة
على أي حال، إن كانت ثمّة فضيلة للعمل الديمقراطي فهي التعرية المستمرة لكل المقولات الطائفية التي كانت تتعكّز عليها القوى السياسية؛ فأنت إمّا معي في تقسيم النفوذ، حتى لو كنتُ أنا خاسرًا، أو ستكون خارج الملّة، فالطائفية في العراق هي الشرط المسبق للديمقراطية وليس العكس، ومن يقف أمام هذه المعادلة فهو خارج الملّة. لكن كم ستدوم هذه الأوهام؟
اقرأ/ي أيضًا: