22-نوفمبر-2021

ما من بلد سمح لميليشيات مسلحة إلا وانقلبت ضده (فيسبوك)

ننخرط في كثيرٍ من الأحيان بمحاولات روتينية لقراءة للواقع السياسي، وهي قراءات في أفضل حالاتها لا تجيب على شيء، بل هي من قبيل تحصيل الحاصل. نكرر هذه العبارات كثيرًا؛ إمّا أن تنتهي مشكلة المحاصصة أو سيقودنا ذلك إلى خراب العملية السياسية برمّتها. كما لو أننا كنّا ننتظر هذه القراءات لنستعدّ لما هو اسوأ. والحقيقة أن محاولات من هذا النوع لقراءة الوضع العراقي لا تأتي بشيء بل هي محاكاة للحدث السياسي بشكل حرفيَ.

 يمكن للطرف الخاسر في العراق أن يملي شروطه بقوة السلاح وهذا الأخير أصدق من كل الوقائع في بلد مثل العراق

 والمشكلة ليست بهذه القراءات، وإنما المشكلة في واقعنا الذي يتقبل كل شيء؛ يمكنك أن تستيقظ صباحًا وتذهب إلى عملك وتصادف المعدات العسكرية منتشرة في تقاطعات الشوارع الرئيسية، أو تشاهد الأغلبية السياسية وهي تقوم بسلسلة من الترضيات لإقناع الأطراف الخاسرة، ففي العراق يحدث العكس، يمكن للطرف الخاسر أن يملي شروطه بقوة العناد السياسي أو بقوة السلاح، وهذا الأخير أصدق من كل الوقائع في بلد مثل العراق. بيد أن هذه الأمور ليس تنبؤًا بما سوف يحدث وإنما هي من تحصيل الحاصل.

اقرأ/ي أيضًا: حل الفصائل.. أين ينتهي سباق "إلقاء الحجج"؟

العمل المؤسساتي يمنحك القابلية على التنبؤ، وقاعدة البيانات تؤهّلك للوصول إلى نتائج ملموسة، وقواعد السلوك السياسي المتعارفة في البلدان ذات المؤسسات العريقة، تزودك بمعارف كاملة لفهم مسار العلمية السياسية. أما في بلد مثل العراق، فيمكنك أن تؤشر بأصبعك على أي مكان ثم يتّضح حينئذٍ أنك لم تخطأ الهدف. لكنه ليس تنبؤًا، أكرر، بقدر ما هو تحصيل حاصل.

لم تعد الحالة العراقية تحتاج إلى مزيد من الفطنة والنباهة لنفهم من خلالها إلى أين تتجه بنا الأحداث، لذلك أن المجتمعات التي تعاني من ضعف المؤسسات تغدو نتائجها السياسية والاجتماعية واضحة: كل بلد يعاني من انقسام اجتماعي وفساد سياسي مصيره الخراب، كل سلطة سياسية تتجاهل الإصلاح وتغض الطرف عن الفساد السياسي فمصيرها الانهيار، كل بلد تتعكز منظومته السياسية على المحاصصة والتسويات (على الطريقة العراقية) ويتوزع القرار السياسي على أمراء المحاصصة، فنتيجته الحتمية تفشي الطائفية والمحسوبية وحرب الكل ضد الكل.

 هذه مقدمات لا تحتاج إلى فطنة عميقة لكي نكتشفها، أو نضعها في خانة القراءات الرصينة، لأنها أضحت شبه مسلمات تاريخية.

على سبيل المثال؛ هل يحتاج الوضع التالي إلى تنبؤات بما سيؤول إليه الوضع: إذا اتسع نفوذ الميليشيات المسلحة، فستغدو بمرور الوقت البديل الموازي للدولة، وستحارب هذه المليشيات أي محاولة للحد من نفوذها. ولا تكتفي بهويتها العسكرية فحسب، بل ستجد لها غطاءً شرعيًا من خلال التمثيل البرلماني لتغدو واقع حال، وإن تُركت طليقة فستتغوّل بمرور الوقت وتقوم بتصفية خصومها بالتدريج، وتستخدم سياسية تكميم الأفواه وإرهاب الناس، ويعم الفساد، وتتفشى حالة الاغتيالات، وتنكسر هيبة الدولة تمامًا.

المثال الثاني، لا تحتاج الحقيقة التالية مزيد من التحليلات العميقة: حين ينقسم القرار السياسي ويتوزع على قادة الكتل الطائفية، ويغدو التمثيل السياسي ليس على أسس ديمقراطية حقيقية، بل على أسس طائفية وعرقية، فستكون السلطة السياسية عبارة عن مجموعة من الأغبياء والفاسدين يتحكمون بثروات البلد الطبيعية والبشرية، وستكون معظم  الهياكل الإدارية والقانونية للدولة ليست سوى دروع سميكة لحماية الفاسدين.

 وبما أن الناس على دين ملوكهم فسيصاب المجتمع بعدوى الفساد، ويغدو ثقافة مشاعة بين الناس. كما أن البلد الذي يمر بهذه المأساة فهو مرشّح للتورط في حرب أهلية.

لماذا نقول إن هذه الحقيقة لا تحتاج إلى قراءة عميقة ولا حتى التنبؤ؟ لأنها ببساطة شديدة حقيقة تاريخية، وهذه الأخيرة تقول لنا، ما من بلد سمح لميليشيات مسلحة إلا وانقلبت ضده وتشيع الفساد والفوضى، ولم تعد الدولة هي الكيان الشرعي الوحيد الذي له حق احتكار العنف، بل ستنافسها الكثير من الشرعيات. من هنا نحن لا نقول سوى ما راكمته دائرة البيانات العظيمة (التاريخ) وما شهدناه في البلدان المماثلة للوضع العراقي.

يمكن للدولة المتقدمة أن تحدد مكامن الخطر قبل حدوثه في كثير من الأحيان اعتمادًا على المؤسسات التي تضم دائرة بيانات ضخمة وعدد هائل من الخبراء، و ينطبق الأمر كذلك على باقي المجالات.

 التنبؤ بمسار الأحداث وقراءة الأوضاع يعتمد على تراكم معرفي هائل تقدمه المؤسسات العريقة. أما قراءة الأوضاع، التي باتت مثار تندّر وتهكّم في مواقع التواصل لشدة وضوحها، لا تُعتبر جهدًا مميزًا لـ"المحللين السياسيين"، ولا لدينا نحن الكتّاب. يمكن أن نتفاءل لبرنامج سياسي واضح البنود لكننا نفاجئ بعدها بالتناقضات الفاضحة لهذا البرنامج، فكيف يمكننا التنبؤ بالنتائج وسط هذا الكم الهائل من التناقضات؟

الكثير من الكتابات التي تابعتها عن الوضع اللبناني المتأزم، كانت تجزم بحدوث الانهيار، لأنك حين توظّف مقولات الدولة الحديثة، وتعتمد على مسار الحداثة كخطاب سياسي، وتتخذ من الديمقراطية نظامًا سياسيًا، ومن الرأسمالية هوية اقتصادية، فسيكون من السهل للغاية التنبؤ بمسار أفعالك، خصوصًا إذا كنت حاكمًا في بلد عربي، فالنتيجة ستكون الانهيار حتمًا، لأنك تستبدل المضامين بأشكال تافهة ومزيفة لنموذجها الأصلي.

ما من بلد سمح لميليشيات مسلحة إلا وانقلبت ضده وتشيع الفساد والفوضى، ولم تعد الدولة هي الكيان الشرعي الوحيد الذي له حق احتكار العنف

على أي حال، أن التنبؤ بسلوكيات التنظيمات الحاكمة وكيفية إدارتها للأزمات فهو غامض للغاية، ومن يشطر نفسه نصفين؛ النصف الأول كهوية فرعية وفيّة لأصولها العقائدية مدججة بسلاح الحرس القديم، والنصف الثاني كفاعل سياسي يتذرّع بالقيم السياسية الحديثة لكنه يضمر العداء والكراهية لفكرة الدولة بالأساس، فماذا سيكون خطابه السياسي سوى مجموعة من التناقضات تجعل قراءته عسيرة للغاية؟

 ليس بصفته سياسي واسع الحيلة، وإنما كشخص لا يمشي على خطى المؤسسة الحديثة ولا يعرف ماذا يريد.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ليل الديمقراطية الطويل في العراق

الأغلبية الوطنية والأغلبية التوافقية