20-فبراير-2022

يجب أن نفهم ما يراه الناس أولاً (Getty)

تعتمد دولة المؤسسات الحديثة بشكل كبير على النظام المؤسسي كبديل فعّال لأنظمة الإدارة المجتمعية القديمة، ورغم أن تركيب الأنظمة الحديثة سواء كانت سياسيةً أو غير ذلك، تعتمد مبدئيًا على الأفكار القديمة بعض الأحيان، فهي عمومًا جاءت لتحل الكثير من المشاكل التي تواجه المجتمعات في طريقها نحو حياة أكثر تمدنًا واستقرارًا وبعبارة قد لا يفضلها الكثيرون وأنا منهم، أكثر تحضرًا.

تقوية المؤسسات القضائية يبدأ من جعلها منافسًا وبديلاً واقعيًا وفعالًا للنظم القضائية العشائرية

يجد الأنثروبولوجي الإجابة على أسئلته دائمًا في الميدان، وأعني ميدان المجتمع، بين الناس، محاولاً مشاركتهم حياتهم بحثًا عن المعنى والغاية من المركبات والعناصر الثقافية المختلفة، كان البحث الأنثروبولوجي سابقًا مقتصرًا على المجتمعات التقليدية القديمة، صغيرة الحجم، وبسيطة الحياة، لكن اللحظة الفاصلة في عمر البحث الأنثروبولوجي القصير كانت عندما أقدم الباحثون الرواد على دراسة المجتمعات الحديثة المعقدة والمتداخلة، بأدوات البحث الأنثروبولوجي، مقتحمين ميدانًا كان لفترات طويلة حكرًا على علم الاجتماع والعلوم الإنسانية الأخرى، ومن وجهة نظري كانت هذه اللحظة فتحًا مهمًا في العلوم الإنسانية، وقد يختلف مؤرخو العلوم الإنسانية عمن أنتج هذا التحول المهم، ما يهمنا الآن أنه حصل بالفعل، وما يجعله فتحًا هو أن الباحث الأنثروبولوجي يجد ضالته دائمًا عند الناس أنفسهم، في مقابل العلوم الإنسانية الأخرى التي تستثنيهم من المعادلة البحثية في أغلب الأحيان، إلا من التعامل مع رؤاهم على شكل بياناتٍ صمّاء ممثلة بيانيًا. ولا أجد بأسًا بهذا في حال كان البحث متمحورًا حول قضايا مجردة، لكن القضايا الإنسانية، هي بمعناها الحرفي "قضايا إنسانية"، أي أن الإنسان محورها وموضوعها، والغريب أن الباحث "الإنسان" يقتطع نفسه من المجتمع ويحاول منفردًا فهم القضية محل البحث، دون أن يكون للمجتمع نفسه وأفراده دورٌ في هذا الفهم والتفسير.

اقرأ/ي أيضًا: العقل الإيماني الكسول

 وليكون الموضوع أكثر وضوحًا دعنا نتشارك معًا رحلة قصيرة في قضية قد تكون الأكثر دلالة ووضوحًا، ففي منتصف عام 2019، كنت جزءًا من مشروع تنفذه منظمة أفق للتنمية، بالشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، والمشروع جزء من برنامج كبير حول دعم المجتمعات المحلية لسلطة القانون، كان أحد العناصر المهمة في البرنامج هو عقد لقاءاتٍ مع شيوخ العشائر في "مدينة الصدر"، وعلى هامش أحد اللقاءات، تحدثت مع أحد الشيوخ الأقوياء نفوذًا وحضورًا، وكان منفتحًا بشكلٍ قد يبدو مستغربًا عند بعضنا، وسألته عن سبب اللجوء للطرق العشائرية في حل النزاعات، مستنكرًا ذلك وطامحًا في أن يكون للمؤسسات الرسمية الدور الأكبر، وهنا أطلب من القارئ توقع الإجابة التي حصلت عليها، فربما تكون مغايرة لما تظنه، حيث قال لي إنه يتمنى أن "يكون القانون ومؤسساته الفيصل في حل النزاعات، لكنّ الأفراد يلجأون للعشيرة لأنها الأكثر حسمًا وسرعة، وقواعدها أكثر استقرارًا وعدالةً"، وأضاف أن "المتنازعين يخشون الذهاب لمؤسسات إنفاذ القانون لأنها قد تأخذ شهورًا وتكلف ثروة لحل نزاع بسيط حول حادث سيرٍ مثلاً". أنا لا أحاول هنا ترجيح كفة النظام العشائري على النظام القانوني الحديث، فالباحث الأنثروبولوجي لا يقحم رؤيته أو فرضياته على الواقع، بل هي محاولة للفهم بأدواتٍ علمية. 

لتحليل الواقعة بشكل علمي، علينا أن ندرك هنا عنصرين قد يغيبان عنا دائمًا حين ننظر لأي مسألة من موقع المتفرج، الأولى أن الإنسان يبحث دائمًا عن الحل الأكثر عملية وسرعة وسهولة لمشاكله، فنظام التقاضي العشائري أسرع وأسهل بالوصول وأكثر فعالية وعملية من النظام القضائي المؤسسي بكل تأكيد، فلا إجراءات ورقية، ولا انتظار ولا طوابير، وبالتأكيد لا يوجد حاجة لدفع الرشاوى في مركز الشرطة أو في المحكمة، وحتى دون التطرق للفساد في مؤسسات إنفاذ القانون، فطول إجراءات التقاضي يتناسب طرديًا مع الإنفاق على التقاضي، حيث ذكرت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والتي تضم 38 دولة، والعراق أحد أعضاءها، أن طول الإجراءات القضائية يعني إنفاقًا أكثر على المستوى الفردي على هذه الإجراءات. والعنصر الثاني هو وجود قواعدٍ مفهومة تسري على الجميع -في معظم الحالات على الأقل- والقواعد العشائرية هنا ثابتة إجرائيًا وقانونيًا، فلا تتغير تبعًا لثروة أو مكانة الشخص في الغالب، أما في المؤسسات القضائية فالأمر مختلف، أو على الأقل هو مختلف من وجهة نظر أفراد المجتمع، فلا توجد قواعد ثابتة للتقاضي، ولا أعني هنا القوانين بذاتها، بل ما يحصل فعلًا في مؤسسات إنفاذ القانون، فببساطة يمكن أن تخسر حقك حتى لو كان القانون في صفّك، إذا كان خصمك ذو نفوذ.

هل يبدو هذا غريبًا؟ في الحقيقة هو غريب جدًا، وشواهده كثيرة، ويمكن أن نختلف معًا في أسباب لجوء الناس للنظم القضائية العشائرية مدّعين أن العيب في الأفراد أنفسهم، لكن في أرض الواقع، وفي الميدان سيلجأ الناس في كلّ مرةٍ إلى النظام الأكثر فاعلية وسرعة، والذي يتبع قواعد مفهومة وواضحة وثابتة إلى حدٍ ما، للبحث عن الإنصاف. وهنا يقودنا الكلام إلى نقطة مهمة أخرى، إن كان رأي الناس هنا صحيحًا، وإن كان هذا الرأي أفضل على المدى البعيد، والجواب في الحقيقة هو: لا يهم، فهذه الأسئلة لا تشغل بال الأفراد في الواقع، وحين تعترضه مشكلة يريد حلها بالسرعة الممكنة، وعلينا أن ندرك أن تقوية المؤسسات القضائية يبدأ من جعلها منافسًا وبديلاً واقعيًا وفعالًا للنظم القضائية العشائرية.

هذه الحادثة وهذا التحليل، رغم أنه يبدو مقحمًا للوصول لنتيجة أتبناها مسبقًا، لكن الحقيقة غير ذلك، فسابقًا كنت أعتقد أن تمسك الأفراد بالطرق القديمة للتقاضي، جزءٌ من رجعية فكرية، حتى امتلكت الأدوات المناسبة لفهم التركيبات الثقافية الإنسانية، وهذه حسب رأيي هي نقطة الشروع الأنسب في طريق الإصلاح المؤسسي بشكل عام، وللوصول إلى دولة المؤسسات الحديثة، يجب أن نفهم ما يراه الناس أولاً، ولماذا فقد الإنسان بشكل فردي وجماعي ثقته في المؤسسات، هذا الفهم الحقيقي والواقعي هو الإجابة على تساؤلاتنا جميعًا حول أسئلة كانت تبدو اجاباتها غير منطقية، وبالتالي تنفر بعضنا من بعض، مكونة مجتمع مفكك يعتقد نصفه أن النصف الآخر رجعيٌ ومتخلف.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

ثقافة العشيرة: المشكلة هي الحل!

جدلية الفكر والواقع