28-نوفمبر-2020

لا يمكن لامتداد العشائري أن يستمر بدون اختراع المشاكل (Getty)

معظم تجاربي التي عشتها في بيئتي العشائرية دلّتني على حقيقة لامستها من قرب، وهي الحقيقة التي تكلم عنها عالم الاجتماع الأمريكي (رايت ميلز)،  مضمونها: "حينما يعجز الفرد عن إدراك الواقع الذي يعيش فيه، في النهاية سيقبل ويميل إلى تصديق المعاني الرسمية للواقع الاجتماعي. وفي الحقيقة ثمّة ما يعمق هذه الحالة، وقد نعتبره بمثابة البنية التحتية لشيوع هذه الأوهام وهو فقدان التكيّف مع المجتمع لأنه لا ينسجم مع تطلعاته. وهذا الحال ينطبق على الأجيال الجديدة عمومًا، فهي الأجيال التي تحاول إحداث قطيعة مع القديم؛ أنماط التفكير، والسلوكيات العامة، والأزياء، والاهتمامات الأخرى، كلها تشير إلى قطيعة مع الأجيال القديمة. غير أن القلق ينبع من هنا وبالذات: إن لم يجد الجيل الجديد الأدوات الكاملة للتغيير فسينقلب على عقبيه، وبمرور الزمن يتبنّى ما كان يعارضه. وقد شاهدت الكثير من هذه النماذج: بدأت"تقدمية"، وانتهت"رجعية"!

من النشاطات التي تشكّل أولوية قصوى في أدبيات العشيرة الرسمية، هو تفعيل الخيال إلى أقصاه وتوظيفه بشكل جيّد للبحث عن مشكلة "مهمة"

بالرجوع إلى البيئة العشائرية، فإن الميل إلى تصديق المعاني الرسمية للواقع الاجتماعي يتّخذ صيغة مغايرة؛ فمعظم المشاهدات اليومية والخبرات التي جمعتها طيلة وجودي في بيئة عشائرية، تعزز عندي هذا الزعم: يتّخذ الميل إلى تصديق الأوهام صيغة طوعية على نحو العموم. لا أدخل في تفاصيل المقدمات البعيدة لنشوء هذه الحالة في البيئة العشائرية، فبالتأكيد ما من ظاهرة إلا وقد تضافرت فيها العديد من الأسباب لإنتاجها. لكن في هذه العجالة نركز على العوامل المباشرة والأقرب إلى صنع الظاهرة. وأعني هنا بالتحديد البيئة العشائرية التي تعتمد اعتمادًا كليًا على أواصر القربى. وهي في نهاية المطاف أواصر لا ننتظر منها فعلًا عقلانيًا لتحديد مصالحها على أساس اقتصادي أو سياسي، وإنما غاية ما تنشده هذه الجماعات هو الحفاظ على هذه الأواصر متينة وصلبة، ويتطلب منّها هذا الأمر التلاعب بالوقائع وقلبها لصالح الجماعة.

اقرأ/ي أيضًا: جدلية الفكر والواقع

من ضمن النشاطات المحمومة التي تبديها الجماعات العشائرية، وتشكّل أولوية قصوى في أدبياتها الرسمية، هو تفعيل الخيال إلى أقصاه وتوظيفه بشكل جيّد للبحث عن مشكلة "مهمة" وطازجة تسهم في عملية تزييف الواقع وتبريره خدمة للنزعات المشوهة. حدثني مرّة أحد الشخصيات العشائرية من أن الحياة عبارة عن غابة تسكنها حيوانات مفترسة. وبالطبع كان يبرر لي أفعال العشائر السلبية ويضفي مشروعية على هذا الواقع، لا من أجل إقناعي، وإنما للإقناع نفسه بفقدان القدرة على التكيّف مع الواقع. والحقيقة أن فقدان القدرة عند صاحبنا هنا طوعية أكثر مما هي قهرية! فلا نستغرب ميل الكثير إلى التغني بقيم العشيرة في السنوات الأخيرة، واستغلال ضعف مؤسسات الدولة كما يقال. لكن ثمّة أمر آخر: إن الشباب الذين ينخرطون في النزاعات العشائرية ويحصلون على موقع جيد وسط جماعتهم، الكثير منهم لم يكمل تعليمه بشكل جيد. والفرد المنتمي إلى العشيرة لا يمكنه الإحساس بقدراته الذاتية خارج جماعته العشائرية، يتعمّق إحساسه أكثر من خلال آليات السيطرة والتحكّم العشائرية المزروعة في لا وعيه منذ الصغر.

 هذه الآليات لا يسلم منها حتّى المتدين نفسه، لأنه في نهاية المطاف يرضخ لأعراف المنازعات العشائرية أكثر من الشريعة. في جرائم القتل العمد لا يلجأ المتدين إلى قانون الشريعة لأخذ الديّة من الجناة، بل يحددها شيخ العشيرة، وبالتأكيد تخضع الدية العشائرية إلى تسويات كثيرة معمول بها لحد الآن في المحافل العشائرية. ولا يقتصر أمر المتدين على هذه النقطة فحسب، بل تتعداها إلى مختلف النزاعات العشائرية. فالمتدين يعتبر عشيرته هي العائلة الأولى، ومن خلالها يضفي مشروعية وتزييف على الواقع لكي يمكنه الصمود مع الأكاذيب والأوهام. وليت الأمر يتوقف على ذلك فقط، إنما يسعى حثيثًا للبحث عن مشكلة طازجة، ليفرّج من خلالها عن همومه النفسية وإحساسه المؤلم بفقدان قدرته على التكيّف، وبفقدان قدرته على الإحساس بإمكاناته الحقيقية، فلا يمكن لامتداده أن يستمر بدون اختراع المشاكل، فهي الحل الأول والأخير.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

المعارضة "اليتيمة"

دور الضغوط الاجتماعية في تبني السياسات العامة