توجد نكتة طريفة في نظامنا "الديمقراطي" الطائفي القائم على فكرة الغنيمة (منّا أمير ومنكم أمير)، خلاصتها: نظام سياسي يتبنّى الديمقراطية (تداول سلمي للسلطة، انتخابات دورية، حرية تكوين التنظيمات.. الخ) رغمًا عليه. وقد أتاحت له الأغلبية الطائفية التمسّك بهذا النظام لإضفاء نوع من المشروعية السياسية للنخب الحاكمة. ولا تنتهي النكتة عند هذا الحد، بل تتعدى المألوف والمعروف في النظم الديمقراطية، وهو وجود معارضة سياسية من داخل البرلمان. وبالطبع لا تعني الديمقراطية شيئًا يحظى باحترام هذه التنظيمات لولا ضغط الاحتلال الأمريكي كقوة مهيمنة ولاعب رئيسي للعملية السياسية. فضلًا عن النفوذ السياسي البارز لإيران، ولا يحتاج هذا الأخير إلى مزيد من التوضيح، بنفس القدر الذي لا نحتاج إليه للتدليل على قوة الاحتلال الأمريكي ونفوذه "الرسمي" في صياغة القرار السياسي العراقي.
نحن أمام ديمقراطية "عراقية"، قائمة على صراع محموم على السلطة، يعتمد على الصلات العاطفية للجماعة، ويتّخذ من السلطة الكاريزمية عنصرًا من عناصر الحكم الديمقراطي! ولا يعطي أدنى احترام للمعارضة السياسية. الجميع قادة، والجميع حاكمون، والجميع لا يهمهم تقويم سلوكهم السياسي طالما هم في حلٍ من المساءلة والنقد. وفي مجتمع تقليدي مثل المجتمع العراقي، القائم على الحميميات الطائفية والقبلية، يكون فيه التنظيم السياسي عبارة عن جماعة عقائدية لا يحكمها نظام داخلي أو برنامج سياسي (فهو حبر على ورق)، وإنما تحكمها العقيدة المتماسكة بين رأس الهرم والقاعدة. فمن النادر جدًا في مجتمع بمثل هذه المواصفات أن يعمل طبقًا للأطر السياسية الحديثة، بقدر ما تكون هذه الأخيرة شكلًا تعبيريًا مفرغًا من معناه. نحن أمام بنية اجتماعية وسياسية تتقمّص دور "النخب" السياسية، ورعايا يلعبون دور "الجمهور"، غير أن الحقيقة في العمق لا نخبة ولا جمهور قائمة على علاقة عقلانية، وإنما جماعة هرمية ممسوكة تحركها العقيدة. وفي مثل هذه البيئة يغيب دور المعارضة السياسية ولا تحظى بأدنى احترام؛ إمّا أن نكون في السلطة أو لا نكون!
والمشكل الأكبر في هذا كلّه، إن الفئات الاجتماعية الناقمة على النخب الحاكمة لا زالت تعاني من نفس العدوى مع اختلاف الدرجة. فهي مشلولة كليًا عن أخذ زمام المبادرة ولعب دور المعارضة المُنَظَمة. هذا لا يقلل من حجم الحركات الجماهيرية الغاضبة التي خرجت - وقد تخرج لاحقًا - لساحات الاحتجاج، بل هي من الأهمية بمكان لدرجة أنها أصبحت الحدث الذي ألهمنا للكتابة بهذا الشأن، وشكّلت ظاهرة بارزة لتحريك الرأي العام. إلّا أن السؤال ينطلق من هنا: هل يحتمل الوضع مثل هذه الأرقام المهولة من ضحايا السلطة؟! هذا هو السؤال الذي يدفعنا للبحث عن إمكانات وبدائل للحفاظ على الوعي السياسي الذي ينمو بالتدريج في أذهان الأجيال الجديدة. ولكن قد يسأل سائل: أليس من أخذ بزمام المبادرة هو الجديد؟ أليس من ندد بفساد السلطة علنًا في ساحات الاحتجاجات؟ ألم يعط خيرة شبابه قربانًا للكلمة الحرة؟ ألم يكن عنف السلطة هو السبب المباغت لتفتيت أواصر هذا الحدث الاحتجاجي الكبير؟ للإجابة على هذه الأسئلة نقول: هذا صحيح تمامًا، ولذلك أضحى هذا التجمهر الكبير هو الحدث الملهم لنا للبحث عن ممكنات جديدة كما قلنا، ولا نتناوله من باب المناكدة.
المهم في الأمر، إن التشتت الذي أعقب انتفاضة تشرين ينبغي أن نأخذه كتحدٍ بارز ومعوّق يؤشر لنا بجلاء هذه الحقيقة: لا زالت النزعة السلطوية متغلغلة في لا وعينا، ونتصرّف في كثير من الأحيان طبقًا لهذه الحقيقة المزعجة والتي لا نعترف بها. لذلك، ومن منظور شخصي، يبدو أن أحد معوّقات تشكيل معارضة سياسية مُنَظَمَة هو كراهية المؤسسة! ذلك إن العمل المؤسسي لا يتمتع بجمهور غفير، وهو أمر طبيعي للغاية في ظل مجتمع تقليدي لم يجرب العمل المؤسسي في تاريخه السياسي إلّا في لحظات تاريخية قصيرة فيعقبها الخراب لاحقًا. لهذه الأسباب وغيرها ظلّت المعارضة ذلك الكائن اليتيم الذي لا يجرؤ أحد منّا أن يتبنّاه، لا السياسيين ولا خصومهم.
اقرأ/ي أيضًا: