16-يونيو-2021

لا أحد يحب القتلة والسرّاق والفاسدين إلا من حيث كونهم نتاج لشرعية اجتماعية (فيسبوك)

"قام عبد السلام عارف عند اقتحامه القصور الملكية في الرابع عشر من تموز 1958 بتسليم جثث الذين قتلهم من أركان النظام الملكي إلى الغوغاء، وأنا منهم وكنت في عشرينياتي، فمثلوا بها وعلقوها على الجدران والأعمدة وسحبوها في شوارع بغداد، ولم يستنكر أدباء ذلك الوقت من أساتذتنا هذا الفعل الغوغائي بل العكس نظموا مظاهرة تنادي بقتل المزيد". هادي العلوي، المرئي واللامرئي في الأدب والسياسة.

الكثير منّا، بحكم المعايشة اليومية، لا يفصح عن نزوعاته النفسية السالبة. أعني بها بالذات النزوعات المؤلمة التي تسببها الكراهية، والحسد، والتكبر، والتغابي، وغيرها. سنجابه الآخر بنوع من العدوانية لو اتَهَمَنا بهذه الرذائل، لأنها تظهر على سلوكنا شئنا أم أبينا، وسنبرر خلوّنا منها. مؤكد لا أحد يضع نفسه في هذا الموقف ويكشف ضغائنه وأحقاده تجاه الآخرين. هذا من جهة، وسنبرر نزوعاتنا النفسية الرذيلة ونضفي عليها نوعًا من الشرعية  من جهة أخرى. لكن لماذا نحتاج إلى مبررات "شرعية" لتعميق سمومنا النفسية حتى لو سواء كانت تظهر على سلوكنا الخارجي أم لا؟ وماذا نعني هنا بكلمة "شرعية"؟ للفرد شريعته كما للمجتمع شريعته، وكلاهما يصبان في حياض واحد في نهاية المطاف، وهو التبرير. شريعة الأول الأنا المتضخمة التي ترى نفسها أكثر أهمية من الآخرين، بينما يستقي الثاني شريعته من القيم الاجتماعية، وكل منهما يعتمد على الآخر، فيشكلان شريعة موحدة تحطم كل ما عداها وترميه في زمرة الأشرار.

الديمقراطية تعاكس الحكم المركزي المرغوب عندنا، فينبغي شرعتها بطريقتنا الخاصة القائمة على هيمنة الطائفة

 شيء مثير ولافت للنظر أن نبحث عن "قاضٍ شرعي" يبرر رذائلنا، ويمنحنا نوعًا من الرضا الفردي والاجتماعي. بعبارة أخرى: نبحث عن ذلك القاضي المزيف لكي يبرر قبح أفعالنا. فبعد سلسلة طويلة من الحوار المزيف مع الذات والآخرين نخرج بعصيدة تبريرية يغدو فيها القبيح حسنًا طبقًا لهذه الحزم النفسية التي تبعثها لصوت الضمير. من الصعب للغاية قبول هذا  المدعى: إن أصحاب الضغائن، والحسّاد، والمتكبرين، والكذابين، والمنافقين.. يحظون بطمأنينة نفسية ورضا عمّا يقومون به. فما من كائن إلا وهو يتجنّب الألم ويبحث عن السعادة. إذن لا يمكن للذات أن تستريح مالم تجد تبريرًا كافيًا لتسكين هذا الألم على الأقل، فالتبرير، على أي حال، هو أحد الضمادات الوقتية للتغطية على الرذائل! يمكننا والحال هذه أن نشرعن أي تفاهة تعزز حالة القبول الفردي والاجتماعي لأفعالنا المشينة. إذ يكفي أن نضفي عليها صفة القداسة لتطمئن نوازعنا الشريرة.

اقرأ/ي أيضًا: الخوف من الحاضر

رأينا الكثير من الناس يسرفون بالتبرير لأنفسهم حين يُتَهَمون بمثل هذه الرذائل، لكنّهم لا يبذلون نفس الجهد للتبرير للآخرين الذين تطالهم  نفس التهم. ثمة صلة مفقودة بيننا وبين الآخر، هذه الصلة المفقودة هي الألم. الألم الذي تسببه هذه الرذائل هو ما يجعلنا نبحث عن شرعية لكراهية الآخر، ليس لأن الآخر يستحق ذلك، بل من أجل التخفيف من هذا الألم الذي تكابده الذات أثر الأفعال المشينة تجاه الآخر. ولمّا كان هذا الأخير مفصولًا عنّا، ولا يرتبط معنا بنفس الألم، فيغدو موضوعًا من المواضيع، فحينئذٍ لا نشعر بألمه كما نشعر بألمنا؛ لأن الذات لا تشعر بمواضيعها إلا من حيث كون هذه الأخيرة عيانات قابلة للتصور فقط، ونحن من نضفي عليها الإسقاط المناسب، وبالطبع، ولكي ننجو من الألم وعذاب الضمير، سنضفي صفة الشرعية على فعلنا. أما الإحساس العميق، وتفهّم الآخرين، واعتبارهم بشر مثلنا، وما يجري عليهم يجري علينا باختلاف الدرجات، وأنهم يحاولون يتجنبون الألم مثلنا تمامًا، هذه المواضيع لا تثير حماسة الأنا، فتجري عملية الفصل والاستبعاد للآخر لكي تضمن الأنا شرعية أفعالها وتحظى بقليل من الراحة النفسية المزعومة؛ أنها ترى نفسها أكثر أهمية من الآخرين.

 ثمة شيء مضطرب يخرجنا عن حالتنا الطبيعية، وصوت داخلي يؤشر بوضوح على تفكيرنا وسلوكنا اللا أخلاقي، فنحاول تغطيته بإضفاء الشرعية على هذا الفعل لإسكات صوتنا الداخلي الرافض، فنسقط في دوامة من التبرير لا تنتهي إلا بنهاية الألم، لكن عبر التنازل بقليل من راحة البال لحصول على الجزء المتبقي منها. يدخل الفرد في هذه الحالة في عملية خداع كبيرة ويحاول كسب أكبر قدر من المؤيدين لهذا الفعل عبر تبريره وشرعنته، حتى لو نجا بفعلته، حتى لو مرّت العملية بسلام، سيبقى يبرر لنفسه إلى أن يسكن نسبيًا صوته الداخلي المعارض، الصوت الذي يعطي باستمرار مؤشرات عدم الرضا، وهذا الأخير يقودنا إلى الألم بالضرورة. الخلاصة التي يسعى إليها الفرد من كل هذا تبدو كالتالي: أنا على حق فأرجو أن يسكن ألمي، لأني لا أستطيع التغلّب على رذائلي بالطرق الحسنة فأسعى لتبرير وشرعنة القبيح.

هذا على مستوى الفرد، أما على مستوى السلوك الاجتماعي، فتغدو شرعية إسقاط الآخرين، ونبذهم، واحتقارهم، أكثر احترافية؛ لأنها ستحظى بتضامن اجتماعي واسع، أنها عملية جرد واستنباط لكل القيم الاجتماعية، لنخرج منها بخلاصة وافية لإسقاط من نريد. ماذا نعني بالاستنباط هنا؟ نعني به إصدار الأحكام على الآخرين طبقًا للقيم المرغوبة ومقارنتها بالقيم غير المرغوبة، أي كل ما يعتبره المجتمع مشكلة اجتماعية: الحرية قيمة غير مرغوبة، إذن من ينادي بها ينبغي نبذه واحتقاره. الديمقراطية تعاكس الحكم المركزي المرغوب عندنا، فينبغي شرعنتها بطريقتنا الخاصة القائمة على هيمنة الطائفة، المؤسسة تذوّب الجانب الشخصي إذن هي غير مرغوبة،  فعلينا التشجيع على النفور منها ليبقى الولاء للأشخاص لأنهم النقطة المرجعية لكل عمل اجتماعي وسياسي.  بهذه الطريقة تستنبط القوى المهيمنة من القيم المرغوبة ما يعاكسها، وهذه الأخيرة ستغدو مشكلة اجتماعية، ومعنى هذا ستجد معارضة اجتماعية واسعة: الاستبداد مرغوب أو على الأقل مسكوت عنه، والحرية ضده النوعي، فينبغي محاربة واحتقار كل من يدافع عنها ويدعو لها. "ثقافة الجثث المعلقة" ثقافة مرغوب فيها إلى حد كبير، وضدها النوعي هو الاعتراف والتسامح وسيادة القانون، فلا مكان لطلّاب السلام ولا مكان لسيادة القانون. المجتمع التقليدي القائم على الولاء والإيمان هو بنيتنا الأساسية، وضدها المجتمع المواطني القائم على علاقات عقلانية، فينبغي محاربة هذا الأخير بلا هوادة وإن أدعينا عكس ذلك.

لا أحد يحب القتلة والسرّاق والفاسدين، إلا من حيث كونهم نتاج لشرعية اجتماعية. السرقة ثقافة متأصلة وجزء  من قيم الرجولة والشجاعة فشرعيتها متوفرة! ثمة شريعة مقدسة في قبال الشريعة الدينية المعروفة، وأعني بها الشريعة الاجتماعية وخزّانها القيمي الذي هو بمثابة خطوط عريضة لكل عملية استنباط الغاية منها الحصول على شرعية ما لمحاربة وقتال كل محاولة للتغيير. فستقضي عليك هذه الشريعة عبر تكفيرك ونبذك. كيف تكون منبوذًا؟ حينما تخرج من الشريعة الاجتماعية المقدسة. كيف تكون خارج عن هذه الشريعة؟ حينما تستفز قيمها المرغوبة بأخرى غير مرغوبة. فلا نستغرب حينما تفعل الدعاية فعلها ضد كل من يطالب بالتغيير، فسنسمع كل الاتهامات التي تثير غضب المجتمع: أي القيم غير المرغوبة. فستموت ولا يطلق عليك شهيد أو مظلوم، بل خائن. لماذا خائن؟ لأنك كفرت بالشريعة الاجتماعية المقدسة. عند هذا الحد، سواء على المستوى الفردي أو الاجتماعي، ستعرف لماذا يبرر الإنسان قتل أخيه الإنسان ويضفي عليه شرعية ما، لماذا تكفرّك الشريعة الاجتماعية المقدسة وتحاول بعدها إضفاء نوع من القداسة والشرعية على تكفيرك، لماذا يصادق عموم المجتمع على نبذك واحتقارك؟ لأنه وجد المفتاح في الانقلاب على عذاب الضمير عبر تضليل الضمير الفردي من جهة، وكسب الشرعية من الضمير الاجتماعي من جهة أخرى. غير أن الثمن سيكون مضاعفًا لهذا الضمير المزعوم: المزيد من الألم، والمزيد من التَيه.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

فرسان التغيير: الإمكانات والشروط

سلطة الجماعة