في المقالة السابقة قلنا إن الجماهير في المجتمع العراقي تميل إلى التسلطية بحكم الذاكرة الجمعية الممتدة لعقود. ويترتب على ذلك أن المطالب العالية ذات البعد التقدمي؛ كالحرية، والديمقراطية، والمواطنة، لا تلامس وجدان الأعم الأغلب من الناس، بقدر ما تلامس عقول النخب. وهذه الأخيرة تلعب دورًا محوريًا في عملية اكتساب الجمهور السياسي. باقي الفئات الاجتماعية المعارضة، التي تحاول شق طريقها بعيدًا عن الثقافة المهيمنة، لا زالت تقف على أرضية هشّة، ذلك أن الجمهور المؤيد لهذه الفئات يمكن أن نسميه جمهورًا موسميًا؛ لا يظهر إلّا في الاحتجاجات، والسمة الغالبة عليه هي الشك والثقة المتزعزعة بأي تنظيم سياسي خارج الثقافة التسلطية المهيمنة. إنه قلق ومتناقض؛ فهو معارض للثقافة المهيمنة، لكنّه لا يمنح ثقته الكاملة للتنظيم السياسي المتناغم مع توجهاته.
المصالح المشتركة ليست كلمات بل مواضيع ملموسة، وهذه لا تكون إلا من خلال نخبة مستنيرة شديدة الالتصاق بمواضيعها وتفهم واقعها جيدًا
يبدو أن ثمة مصالح مشتركة شديدة الصلة بحياة الناس تجعل منهم يميلون إلى هذا التنظيم أو ذاك. ولقد وضحّنا ميول الجمهور العقائدي ومصالحه المشتركة. لكن ما هي المصالح المشتركة التي تربط الجمهور "المواطني"، المعارض، بحيث تجعله هذه المصالح شديد الصلة بتنظيمه السياسي، ويختلف، من جهة، عن الجمهور العقائدي الذي يكفيه الإيمان والولاء لتنظيمه السياسي؟ إذا كان جميع البشر يشتركون بسمات أساسية، مثل المأكل، والمشرب والملبس، وهي محرك جوهري للتاريخ حسب ماركس، فما هي السمة التي يتميز فيها الجمهور المواطني عن الجمهور العقائدي؟ بلا شك أن المقالة السابقة تجيب عن هذا السؤال؛ حيث وضعنا الحرية كموضوع مركزي لحراك الفئات المتنورة، الحرية بوصفها نفي للإكراه. غير إننا سنصطدم بحقيقة مفادها: ثمة مقدمات هائلة، بمنزلة البنى التحتية، هي من جعلت هذه المطالب العالية، مثل مفهوم الحرية، في متناول اليد.الوقائع التاريخية تخبرنا أن التحولات الأوروبية الكبرى لم تحدث نتيجة لمخاض الكلام والعبارات الحماسية. العامل الخارجي الذي تمثل باستعمار الشعوب وسرقة ثرواتها، والعامل الداخلي الذي تمثل بالنخب البورجوازية الصاعدة، يشكّلان أهم العوامل المكونة للحداثة الأوروبية. ماهي سمات هذه النخب البرجوازية؟ يقول أريك هوبزباوم، في كتابه "عصر الثورات"، إن "الإيمان الذي تشرّبه وتشبع به القرن الثامن عشر بتقدم المعرفة الإنسانية، وبالمنهج العقلاني، وبالثورة، والمدنية، والسيطرة على الطبيعة ـ أي حركة التنوير ـ إنما كان يستمدّ قوّته أساسًا من التقدم الواضح في مجالات الإنتاج، والتجارة، والعقلانية الاقتصادية، والعلمية". فكما يظهر من هذا الاقتباس، أن الفكر لوحده دون الارتباط بمواضيعه، أعني التطبيق العملي لهذه الأفكار، فسينتهي بها المطاف إلى صرخات وهيستيريا جماعية تتسم بالحراك الموسمي، ثم سرعان ما يتوقف كل شيء.
اقرأ/ي أيضًا: العراقيون وسؤال الحرية
هذه العوامل وغيرها أثارت شهية الجمهور السياسي لكي يصطف مع طبقته السياسية. إن المصالح المشتركة ليست كلمات بل مواضيع ملموسة، وهذه لا تكون إلا من خلال نخبة مستنيرة شديدة الالتصاق بمواضيعها وتفهم واقعها جيدًا. لقد "كان فرسان الساحة البارزون في هذا المجال هم أبناء الطبقات والأكثر التصاقًا بأشواط التقدم الجلية في ذلك العصر: جماعات التجّار، ومالكي الأراضي، والمستنيرين اقتصاديًا، والمحوّلين، والمديرين الاقتصاديين، والاجتماعيين، والطبقة الوسطى المتعلمة، وأصحاب المصانع، والاقتصاديين..". (هوبزباوم، عصر الثورات). هل يعني هذا أن نتنازل عن الحرية والديمقراطية والمواطنة بمجرد زهد العامة بها؟ لو كان الأمر كذلك، أي اتخاذ العزوف العام عن المطالب العالية ذريعة عن الكف بالمطالبة بها، إذن لتوقفت الكثير من المنجزات العظيمة في التاريخ البشري. إن المنجزات العظيمة في التاريخ لم تكن تحظى بالقبول العام؛ لم يكن الفلاسفة، والعلماء، والفنانون، والأدباء ينتظرون الإمضاء الاجتماعي العام لكي يباشروا بكشوفاتهم العظيمة، ولا زلنا مدينين لهم بمعظم ما نفكر فيه، ونشعر به، ونستخدمه، ونعبر من خلاله. لولا هذه الإمكانات التي صنعتها الصفوة من هؤلاء البشر ذوي الإمكانات العالية لظلت الأشياء محكومة بالعود الأبدي؛ عودة رتيبة ونسخ مكررة لا اختلاف فيها.
الرهان على صفوة المجتمع، نخبته التي تتخذ خطًا مغايرًا عن العقل الجمعي. ولكي تتوفر هذه النخبة، يُفتَرَض، بأقل التقادير، أن تتوفر: الإمكانات، ونعني بها الإمكانيات الفكرية التي تتمتع بها تلك النخبة لفهم الواقع، والجمهور الذي تربطه علاقة المصالح المشتركة، لكي تحظى هذه النخبة بشرعية اجتماعية وسياسية. الرهانات على صفوة المجتمع، وإن تشبهت هذه الصفوة بسلوكيات العامة فقد فقدت التمايز، فقدت الشروط والإمكانات التي تؤهلها للعب دور المفكر. وكلما ظهر حدث احتجاجي سرعان ما يخفت ويخبو بريقه. ليس لقلة عدد المحتجين، بل لظهور أشخاص يلعبون دورًا نخبويًا، ثم سرعان ما ينتهي أمرهم إلى شقاق. حين يتهيأ المجتمع لعبور ماضيه وتجديد أدواته، ففي ذلك الحين لا توقفه قوى الاستبداد. حين تنضج الثمار توهب نفسها للقطاف. المشكلة في بعض الأحيان ليست في فهم المشكلة، بل في غياب الآليات اللازمة للتغيير، وفي بلد مثل العراق تغدو هذه الظاهرة طبيعية: عزوف الناس عن العمل السياسي، وهيمنة الجمهور العقائدي، وسيادة روح القبلية، والطائفية. إن سيادة الحس الشعبوي تعني إعلان الحكم على العقل بالإعدام وإعطاء الفسحة الكافية للأهواء البشرية بتحطيم المجتمع، وتقويض سلطة المعرفة لتحل محلها سلطة الجهل. فمن هنا سيكون الجيل الجديد هم فرسان، وهم من سيخلقون إمكاناتهم الخاصة وشروطهم الخاصة.
اقرأ/ي أيضًا: