20-مايو-2021

الدولة التي تنتصر لقيم الحرية ينبغي أن تحصر قوانينها بالأفعال فحسب وليس بالأقوال (فيسبوك)

ولما كان قدر لنا أن نحظى بهذه السعادة النادرة، وهي أن نعيش في جمهورية يمارس فيها كل فرد حرية التعبير وعبادة الله كما يشاء، ويعدُّ الجميع الحرية أغلى النعم وأحلاها، فقد رأيت أنني لن أكون قد قمت بعمل جاحد أو عقيم إذا ما بيّنت أن هذه الحرية لا تمثّل خطرًا على التقوى أو على سلامة الدولة، بل أن القضاء عليها يؤدي إلى ضياعها معًا.. وإذ يحاول كثيرون ممّن لا حياء لهم أن يسلبوا هذه السلطات حقوقها وأن يبعدوا عنها باسم الدين قلوب العامة، التي لم تتخلص بعد من خرافات الوثنيين. سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة.

..الحيوانات لم تخترع بعد الموت الداخلي، لم تخترع هذه السادية المازوخية الكونية للطاغية والعبد. جيل دولوز، سبينوزا فلسفة عملية.

من يمكنه المجازفة في القول إن الاقتباس أعلاه صار في ذمّة التاريخ؟! بالطبع يمكن إدراجه في عداد الماضي الأوروبي، أما في منطقتنا فهو يزداد راهنية في كل لحظة، ويغدو نموذجًا تفسيريًا لكل أشكال الخراب التي تتعايشها مجتمعاتنا. فنحن دائمًا، وربما إلى أجل غير معلوم، في ضيافة سبينوزا. وهذا ما يوضّح المعايشة الوجدانية لدى بعض الفلاسفة في نصوص سبينوزا، بل لا ينفك فيلسوف مثل جيل دولوز، أن يصرّح من أن سبينوزا في قلبه، وأن هذا الأخير هو "مسيح الفلاسفة". ذلك أن سبينوزا هو فيلسوف الحياة بحق، قوة الحياة القائمة على حرية الفكر، وما عداها تغدو مجرد حياة للعيش فقط وليس لاستجلاء قوة الحياة، فلو انقطعت هذه الأخيرة سيحل محلها الطاغية، وبدوره يملأ الحياة بمزيد من العبيد، فتكون المعادلة كالتالي: نظام مستبد ومجتمع مطيع.

علينا ألّا نستغرب، مثلًا، وجود فئات اجتماعية تغني "بأمجاد" صدام حسين كما لو أنهم فقدوا جنّة الخلد

يمكن الاستناد على هذه المعادلة التي راكمتها شواهد التاريخ: مزيد من خرافات السلطة، يعني مزيد من القهر والاستعباد. فالسلطة المنفلتة التي تحتقر حرية الفكر هي دين بحد ذاته، له نسقه الخاص وطقوسه الخاصة. ونعني بالسلطة هنا، ذلك الكيان العابر لكل أشكال تقديس الحياة على الفهم، ويتخذ من قوة الفكر وحريته عدوًا لا يمكن معه أي تسوية سوى اجتثاثه من هذه الحياة. ومن هنا نجد القبول الواسع والإمضاء السياسي غير المباشر للطقوس الشعبية التي تُلصَق باسم الدين، لأنها تؤمّن هذه الثنائية العزيزة على قلوب الكثير؛ ثنائية الطاغية والعبد. إن الخوف، بحسب سبينوزا، هو الدافع الجوهري لكل أشكال الخرافات، ولّما كان الخوف انفعال يهدد وجود الناس، فستتدفع بقوة للبحث عن طاغية يوفر لهم الملاذ الآمن. وعلى الطاغية ضخ المزيد من المخاوف لضمان المزيد من العبودية-الطاعة. ليس هذا فحسب، بل سيرتبط العبيد بالطاغية ارتباطًا جوهريًا، كما لو أن حياتهم وموتهم بين يديه. علينا ألّا نستغرب، مثلًا، وجود فئات اجتماعية تغني "بأمجاد" صدام حسين كما لو أنهم فقدوا جنّة الخلد، حتى لو لم يكونوا معاصرين له. بل أن خراب العراق مرتبط ارتباطًا جوهريًا بموت صدام حسين، وكأنهم لا يستشعرون قوة الحياة إلّا بمزيد من الذل والإهانة على يد الطاغية.

اقرأ/ي أيضًا: في ضيافة سبينوزا

فمن هنا كان السؤال الذي شغل سبينوزا، في كتاب (اللاهوت والسياسية، ترجمة حسن حنفي) هو إضفاء طابع الدين على الخوف الذي تتم به السيطرة عليهم، بحيث يناضلون من أجل عبوديتهم، وكأن فيها خلاصهم، ويعتقدون أنهم ينالون أسمى مراتب الشرف، عندما يريقون دماءهم ويضحون بحياتهم إرضاءً لغرور فرد واحد (ص124). وينبغي التوضيح، على أن سبينوزا هنا يقيم مفاضلة بين النظام الملكي (المستبد)، وبين النظام الجمهوري (الحر)، "لأن الحرية العامة لا تسمح بأن يقوم الحكم الفردي على الأحكام السابقة أو يخضع لأي قهر". وينبغي ألا نحصر الحرية والطغيان بين نظام ملكي وجمهوري على نحو التخصيص، وإنما للعبودي والطغيان تطبيقات مختلفة في النظم السياسية العربية على وجه الخصوص؛ حيث لا النظام الملكي، ولا الجمهوري، ولا البرلماني، يمكنهم أن يشكلّوا فارقًا في الجنوح نحو الطغيان في منطقتنا العربية. وفيلسوفنا هنا يتكلم عن عمق الأشياء وجوهرها، والأنظمة العربية، جرّدت كل الأشياء عن جوهرها، بل حتى الحياة تم القضاء عليها كليًا؛ فلا كرامة، ولا عيش، ولا عدالة، ولا ديمقراطية، ولا قانون، ولا مؤسسات، ولا أي شيء يوحي بحياة كريمة ومزدهرة. "الحياة" الوحيدة التي تحفل بإمضاء وقبول من النظام السياسي وأنصاره، هو حياة الطاغية والعبد. إنها حياة للعيش فقط وليس أكثر من هذا أو أقل.

 يوضّح جيل دولوز في كتابه "سبينوزا فلسفة عملية"، (ترجمة عادل حد جامي) إن ما بينه سبينوزا هو أن الغاية في كل مجتمع تكون هي الطاعة ليس أكثر، لهذا فإن مفاهيم الخطأ والاستحقاق أو عدم الاستحقاق ومفاهيم الخير والشر، هي مفاهيم اجتماعية خالصة لا تُفهم إلّا في إطار ثنائية الطاعة والعصيان التي تؤسس لكل مجتمع. بهذا المعنى تكون أفضل المجتمعات هي تلك التي تُعفي قوة الفكر الخاصة من أن تخضع لواجب الطاعة.. فمتى ما ظل الفكر حرًا، أي حيًا، لا يكون حينها من الممكن توريطه، لكن حين يفقد الفكر حريته، تصير كل أشكال القمع الأخرى ممكنة ومتحققة قبليًا، فيصير حينها كل فعل مذنبًا وكل حياة مهددة. ليس هذا فحسب، بل تغدو الاختلافات بالرأي جريمة مخلّة بالشرف، وعلى من ينادي بالحرية ووطن يجمعه، ستكون حياته قربانًا لهذه القيم النبيلة، وإلّا ماذا فعل هؤلاء الشباب في انتفاضة تشرين سوى المطالبة بوطن يجمعهم؟ أنظروا ماذا فعل الطاغية؛ أودى بحياة العشرات من الشباب نتيجة لآراء فقط! أما لو كانت هذه الآراء أفعالًا ماذا سيحدث يا ترى؟ هل سيسقط نصف العراقيون؟ كل شيء ممكن.

إن الدولة الحرّة، هي الدولة التي لا تقيم وزنًا للآراء باعتبارها تهدد الأمن الاجتماعي. إن الدولة التي تنتصر لقيم الحرية ينبغي أن تحصر قوانينها بالأفعال فحسب وليس بالأقوال. إن الرأي تهديد للسلم الأهلي كما تزعم الدولة المستبدة، وكل صياغة فكرية حرة هي تهديد مبّطن للدولة الراعية، دولة الطاغية والعبد، التي تسعى جاهدةً  لبناء تشكيل اجتماعي قائم على الطاعة والخضوع. على أي حال أن هذه الذرائع لا يٌقصَد منها الدولة في العمق، بقدر ما تراعي فيها سلامة الطاغية؛ ففي منطقتنا العربية تعني الدولة في سوريا بشار الأسد، وفي العراق الدولة الشيعية والسنية والكردية، وتنتهي هذه الثلاثة بتتويج أحد رموزها لاختزال كل قيم الدولة بشخصه، وفي مصر تعني الدولة عبد الفتاح السيسي، وهكذا. إذن المطلوب في العمق هو ذلك الذي يهدد أمن السيد الرئيس. فهذا الأخير يبحث عن المجتمع المطيع، المجتمع الذي يغدو مجرمًا بعرف الطاغية مالم تكن أقواله وأفعاله على وتيرة واحدة، وأعني بها ذلك الإيقاع الهادئ والبطيء الذي يجعل منك عبدًا مثاليًا للطاغية، فـ"الطاغية يحتاج لنفوس منكسرة كما أن النفوس المنكسرة تحتاج لطاغية".

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

إخفاقاتنا بين التوضيح والتصحيح

عن أمراضنا المزمنة