15-مايو-2021

الألفة مع الأفكار السامة ضخّمت لدينا صفة التجاهل لكل ظاهرة خارج نطاق مألوفاتنا (فيسبوك)

"إن الإنسان الحر يسعى قدر الإمكان كي يتجنب حسنات الجهلة، حتى يكون بمأمن عن بغضهم، فلا ينزل عند رغبتهم ولا يهتدي إلا بالعقل. قلت: "قدر الإمكان"، إذ رغم إنهم جهلة إلا أنهم بشر ويستطيعون وقت الحاجة مد يد المساعدة بإنسانية لا غنى عنها.. وعلاوة على ذلك، فحتى عندما نتحاشى حسناتهم، فمن الحكمة أن ألا نظهر بمظهر من يحتقرهم أو يخشى نظرًا إلى بخله، أن يعاملهم بالمثل، وإلا أهنّاهم، والحال أننا نريد تجنب بغضهم. ينبغي إذن أن نتجنّب الحسنات مع مراعاة ما هو نافع وشريف". سبينوزا، علم الأخلاق.

العقل والانفعالات نقيضان من جهة، ومتضايفان من جهة أخرى؛ فمتى ما كانت الانفعالات يحلو لها التحرك بلا فهم ستغدو سمًا زعاف، وتتحول إلى "نزوعات حزينة"، ومحل للأحقاد والضغائن، أما العقل فهو القوّة الخلّاقة التي تتيح لنا فهم هذه الانفعالات وتحويلها إلى انفعالات للفرح والغبطة، أي تحويلها إلى ترياق شافٍ. فميزة الكائن ليس لأنه إنسان فقط، بل بما يحمله من قدرة على تجاوز مشاعر الأسى والحزن، وتتكثف هذه القدرة الخلّاقة في العقل؛ أن أمتلك عقلًا يعني أن أمتلك فهمًا، وبخلافه أغدو عبدًا تسيريني انفعالاتي، ذلك أن العبودية لا تقتصر على جماعة دون أخرى، أو فئة دون أخرى، وفرد دون آخر إلا بما يميّزهم بالفهم. فالصراخ، والعويل، والتخوين، وتجاهل صوت العقل، لا يمكن أن ندعي ما ليس لنا، إلا بما تفرزه التجربة والممارسة.

التمركز حول الذات وتضخيمها يجعل منها معيارًا مثاليًا ونقطة انطلاق لذم الآخرين

تحمل ذاكرتنا سيلًا هادرًا من الاسئلة التعجبية تجاه الناس وطرق تفكيرهم وسلوكياتهم. وعادة ما ترافق هذه الأسئلة كيفيات نفسية مؤلمة؛ كالتذمر، والضجر، والبغض لما يصدر منهم. نسأل بتعجب واستغراب لماذا يتصرف الناس على هذا النحو أو ذاك؟ تبدو الأسئلة مشروعة لأنها تحمل في طياتها مسحة من "الفضائل". لكن لو كانت كذلك لوجهنا ذات الأسئلة لذواتنا، لأننا، وبكل تأكيد، نعاني قدرًا لا بأس به من السموم الذهنية والنفسية مثلما يعاني غيرنا مع الاختلاف بالمستويات. فالنتيجة التي يمكن تلمّسها هي كالتالي: أننا، سواء قصدنا ذلك أم لا، نرى أنفسنا أكثر أهمية من الآخرين، ولدينا اعتزاز بذواتنا يتفوق بأهميته على الآخرين حتى لو كنّا فريسة لانفعالاتنا، سنبقى في نظر أنفسنا مميزين.

اقرأ/ي أيضًا: إخفاقاتنا بين التوضيح والتصحيح

هذا التمركز حول الذات وتضخيمها يجعل منها معيارًا مثاليًا ونقطة انطلاق لذم الآخرين.  إنني هادئ فلا أحب الصراخ، وساكن لا أحب الغاضبين، ونشيط لا أحب الكسالى، ومتدين لا أحب الملحدين، وملحد لا أحب المتدينين، ومعارض لا أحب الساكتين.. لكن لو تعدى الأمر هذه الأحوال فسأعلن الصمت إزاء الصفات الذميمة التي أعاني منها، بل حتى لو سمعت من يذمها سأدافع عنها وأبرر لها وأجد لها عدة مخارج، المهم ألا احترق بنيران النقد الموجهة ضدي. وبما أن الأمر كذلك أسارع بمدح الآخرين الذين يشابهوني بذات الصفات، وأذم ما عداها من الصفات الذميمة.

 هذه الألفة مع الأفكار السامة ضخّمت لدينا صفة التجاهل لكل ظاهرة خارج نطاق مألوفاتنا. فبالتالي معظمنا ينطلق من هذا "النقد" لا لمقدمات موضوعية،  بل كل ما في الأمر لأنها خارج مألوفاته الذهنية والنفسية. ما ينطبق على الفرد، من هذه الزاوية بالتحديد، ينطبق على المجتمع؛ لأنه سيقاوم كل محاولة للتغيير، وتغدو كل ظاهرة جديدة على مألوفاته (قيمه) مشكلة اجتماعية، فيحاربها بسلاح التشهير والتخوين ويختار الاتهامات التي تهدد قيمه الراسخة لكي يحظى بشرعية هذه الاتهامات. هذه بعض من مشاكلنا: نرى الآخر بمرآة أنفسنا، فالويل لذاك الذي لم تنعكس صورته طبق الأصل لمألوفاتنا الذهنية والنفسية والاجتماعية.

كلنا متفقون على الأسئلة الكبرى؛ كالحرية، والعدالة، وحقوق الإنسان وغيرها.  لكن في الحقيقة ينتهي أمرنا إلى شقاق.  لماذا؟ لأننا نقدس أوثانًا ضخمة. في كل مرة نثبت أن مواقفنا الشخصية، وعدوانينا التافهة، وانفعالاتنا الحزينة هي أقدس من القضايا الكبرى. أزعم أن الخطوة الأولى، عمومًا، لفض هذا الاشتباك المزمن، هو الاعتراف بحدود جهلنا، وعدم المبالغة في تضخيم الذات، أن نكتشف عمق هذه الثنائية التي تتحكم بمصائر الكثير، أعني بهذا ثنائية الطاغية والعبد، نحن عبيد لمواقفنا العدائية، حتى الاختلاف عندنا يتخذ صيغًا عدوانية غبية وعنيفة، تتحكم بنا الضغائن والأحقاد وردود الفعل الصبيانية. ببساطة شديدة: كل من تتحكم به انفعالاته فهو عبد من العبيد. وهذا الأخير يسعى حثيثًا للبحث عن طاغية، إنها عبودية طوعية ارتضاها لنفسه يوم تخلّى عن قوة العقل.

والعبد، كما يصفه سبينوزا هو من تتحكم به انفعالاته، أما الذي يهتدي بالعقل فعكس ذلك تمامًا؛ فـ"الأول يفعل، سواء أراد أو لم يرد، دون أن يعرف ما يفعل، أما الثاني فهو لا يطاوع إلا نفسه ولا يقوم إلا بما يرى أنه أساسي للحياة ويرغب فيه لأجل ذلك أكثر من كل شيء، وبناء عليه فإنّي أسمي الأول عبدًا، والثاني حرًا". ليس هذا فحسب، إذ يكمل فيلسوفنا كالتالي "أسمي عجز الإنسان عن كبح انفعالاته والتحكم في عبوديته، والإنسان الذي تقهره الانفعالات لا يكون ولي نفسه بقدر ما يخضع لسلطان القدر". إن النقطة الحاسمة، إذن هي الاهتداء بالعقل، لكي نثبت، على الأقل، إننا فعلًا متمايزون عن الآخرين، فعندما نكون في ضيافة فيلسوف مثل سبينوزا، فسيقدم لنا هذه الحكمة العميقة "إننا نفضل، متى اهتدينا بالعقل، خيرًا، أعظم في المستقبل على خير أقل في الحاضر، وشرًا أقل في الحاضر على شرٍ أقل في المستقبل". ذلك أن صوت الصراخ أحد السمات التي تميّز العبيد، هؤلاء الذين يكونون محلًا لانفعالاتهم التي تتحكم بهم وليس العكس. إن الانفعالات تكون خيرًا أسمى وأحوالًا حَسَنَة متى ما كانت في دائرة الفهم، أعني العقل، وبخلافه سنكون نسخًا متشابهة لمن ندينهم، فـ" كلما اهتدينا بالعقل، اخترنا بين خيرين اثنين أعظمهما، ومن بين شرين اثنين أهونهما". وسلام على المرسلين.

الاقتباسات الواردة في المقال، من كتاب "علم الاخلاق" لسبينوزا. 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

عن أمراضنا المزمنة

الرغبة بالتغيير.. بين الحلم والحقيقة