03-مايو-2022
التغيير

ما يمر به العراق ليس مخاضًا (فيسبوك)

نستطيع القول دون أن يرمش لنا جفن إن شعوب مشرقنا العربي هي الشعوب الأكثر ميلًا لليوتوبيا، ذلك أن حجم الميل هذا يتناسب طرديًا مع الكمية الهائلة لتدمير على يد الأنظمة السلطوية في منطقتنا. أي كلما اشتدت وطئة الاستبداد كانت الناس من الواقع أبعد ومن أحلام اليقظة أقرب بكثير من أي وقت مضى! والعراقيون ربما يتمتعون بحصة الأسد من هذه العوالم الحالمة.

لا زال جمهور الحراك التشريني السياسي يتقلّب ذات اليمين وذات الشمال وتحاصره الأفكار الحالمة من كل حدب وصوب

 صحيح أن نسبة التذمّر والعدمية تتّسع بإطراد بين صفوف العراقيين، إلا أنّ فئات ليست بالقليلة اتخذت من اليوتوبيا ملاذًا لها في أوقات الشدّة، لا سيما بعد الاتساع الهائل لمواقع التواصل الاجتماعي. ولا أريد أن أكلّمكم عن هذا العالم إذ سبق وكانت لي جولات في هذا المضمار! لكن يبدو أن أحد العوامل الجوهرية، والتي قد تكون أقرب العوامل، هو عامل الطغيان؛ فأين يذهب الناس حين تُغلق عليهم أبواب الحياة الواقعية سوى أبواب اليوتوبيا المشرعة أبوابها دومًا بلا حاجب أو بواب؟

 لذلك الكثير منّا  يحمل في ذهنه نموذجًا مثاليًا يفكّر من خلاله ويضع معاييره النظرية طبقًا لهذا النموذج. ولا أعني هنا بـ"النموذج المثالي" للمفاهيم، لكونها ضرورية بوصفها مثالية، كما ولا أعني النموذج النظري المتماسك والمبنى على أسس علمية، بل ذلك النموذج الذي لا يحتاج سوى مدونة شخصية أو وسادة تلهمنا الهذيان! هذه الخطوة سهلة ولا تحتاج إلى جهد لأنها لا تستدعي الشروط المادية لتطبيق هذا النموذج. معظم خصوماتنا وهذياناتنا تنطلق من هذه الفجوة، ذلك أن الكلام سهل للغاية ويشعرنا بالتميّز الوهمي على الآخرين حتى لو كنّا مفلسين من الشروط. بل سنحارب كل من يذكّرنا بهذه الحقيقة ويغدو خطرًا يهدد وجودنا فنفتعل معه عداوة شخصية (وهذا ما حصل فعلًا في حراك تشرين).

المنطق العملي يخبرنا بهذه الحقيقة الدامغة: أعطني نموذجًا ملموسًا لكي أصدق ما تقول وإلّا سينفضّ من حولك كل من صدقوك في البداية وستكون أنت، وليس غيرك، أحد أسباب الانسداد وفقدان الأمل. ويمكننا أنتلمّس الكثير من هذه الوقائع في الحراك التشريني، إذ لا زال جمهوره السياسي يتقلّب ذات اليمين وذات الشمال وتحاصره الأفكار الحالمة من كل حدب وصوب.

معظمنا يراهن على الصيرورة في النظر لواقعنا السياسي على أنها تفضي إلى نتائج إيجابية في نهاية المطاف. بعبارة أخرى نتصور ما يحدث في العراق عبارة عن مخاض. وهذا التصور تعوزه بعض الدقة لأن المفاهيم تلعب دورًا في فهم الواقع، ذلك إنها تفتح إمكانيات جديدة للتفكير، أي إنها تغدو أفقًا للتفكير. فلو اعتاد فكرنا أو حاول أن يستخلص النتائج من حركة الواقع بمفاهيم مزيفة فعند هذه الحالة ستطول عملية فهم الواقع.

 انطلاقًا من هذا التوضيح يمكن تسليط الضوء على ما تحمله كلمة "مخاض" وهل يمكنه تفسير الواقع العراقي، وبعبارة أدق هل يمكن توظيف هذه الكلمة لتحليل الواقع؟ معلوم أن المخاض يشير إلى عملية ما، العملية نوع من الحركة، تكامل يفضي إلى نتيجة مثمرة. حركة البذرة في الأرض واستمراريتها في النمو حتى تبلغ نضجها، فهذه الحركة نطلق عليها "عملية". إنه نوع من التدفق واشتباك الأشياء بعضها مع بعض لتولد لنا صورة جديدة. فهل عملية "المخاض" التي تجري في المجتمع العراقي تشير إلى مولود ما؟ أبدًا! فالكلمة -إذًا- سيئة التوظيف ولا تسعفنا في تحليل الواقع، بل تمدنا بأمل زائف يضاعف في مخيلتنا أحلام اليقظة!

ولعل السائرين في حياض السلطة يستقتلون على تأصيل كل ما يثبّت سلطتهم لمقاومة التغيير الحقيقي هم ومرتزقتهم الذين نالوا العيش الرغيد بعد " مخاض" طويل!