10-مارس-2017

تجمعات سكنية تذكر بالعشوائيات ويقطنها الغجر في العراق (أحمد الربيعي/أ.ف.ب)

على هامش مدن عراقية، هناك مدن أخرى، جدرانها من الطين وسقوفها من القصب البردي، هي ليست العشوائيات التي سكنها الناس إثر الفوضى التي سادت العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في نيسان/ أبريل عام 2003، بل تجمعات يسكنها غجر العراق منذ سبعينيات القرن الماضي.

تقدر إحصائية حكومية عدد الغجر العراقيين بأكثر من 200 ألف نسمة عام 2000، فيما انخفض العدد حسب ذات المصادر في 2005 إلى 50 ألف نسمة

وأغلب تلك التجمعات عادة ما تكون منعزلة وتقع على أطراف المدن والبلدات. فعلى أطراف العاصمة بغداد تجمعي أبي غريب والكمالية، وفي محافظة البصرة تجمعي شارع بشار، وسط المدينة، وحي الطرب على طريق الزبير، وفي الموصل هجيج والسحاجي إضافة إلى بعض القرى في سهول جنوب العراق كقرية الفوار في الديوانية والمثنى، ومنطقة الفجر في الناصرية، لكن التجمع الأكثر شهرة هو تجمع كنعان، الواقع على أطراف محافظة ديالى.

ويطلق على الغجَر في العراق اسم "الكاولية" ومفردها "كاولي"، ويعيد الباحثون أصولهم إلى مجموعة الشعوب الغجرية التي تعود جذورهم إلى شبه الجزيرة الهندية ودلتا السند. وتقدّر إحصائية حكومية عدد الغجر العراقيين أو "الكاولية" بأكثر من 200 ألف نسمة عام 2000، فيما انخفض العدد حسب ذات المصادر في 2005 إلى 50 ألف نسمة.

اقرأ/ي أيضًا: العراق.. إعادة إنتاج قوانين "البعث" ضد الأقليات

وتختلف الأبحاث في مصدر تسمية "الكاولي"، إذ يعتقد البعض أنها تعني "كابولي"، أي قادم من كابول عاصمة أفغانستان، حيث أن مدينة كابول تسيطر على المدخل الغربي لممر خيبر الواصل بين السند وأفغانستان، وهذا ما يتفق معه اللغوي العراقي العلامة مصطفى جواد.

ونتيجة لتواجد الغجر عند أطراف المدن في النواحي والأقضية، واتخاذهم العزلة في مجتمع محلّي صغير مسالم وحميمي، لم يظهر البغضاء أو الرغبة في الامتلاك والتوسع، وعيشهم على حساب حيواناتهم، بسبب هذا، يعتقد البعض أنهم يسمون بـ"الكاولية" والتي تعني باللغة العراقية القديمة "أصدقاء،" غير أن عالم الاجتماع حميد الهاشمي يحيل أصل تسمية "الكاولية" إلى قبائل هندية كانت بعض نسائهم تمتهن الجنس والرقص كخدمة دينية لرجال الدين، أو بالأجر لآخرين، ومنهن من كن في معبد الملك كاول، فانتسبوا إلى الملك كاول تشرفاً وتعظيماً لأنفسهم، وأطلق عليهم الاسم "الكاولي".

وبالرغم من أن الغجر في العراق عرفوا بتربية الدواب، إلا أن السمة الأبرز التي عرفوا من خلالها هي الرقص والغناء والتسول، حيث يقيمون حفلات الطرب والرقص في بيوتهم، بالإضافة إلى قيامهم وعلى شكل فرق، تتكون من مطربة وعدد من الراقصات بإحياء حفلات الأفراح وخصوصًا في المناطق الشعبية.

عرف غجر العراق بالرقص والغناء والتسول حيث يقيمون حفلات الطرب والرقص في بيوتهم ويحيون حفلات شعبية

وقد شهد عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي رواجاً لحفلات الغجر في المزارع الخاصة لكبار المسؤولين العراقيين في نظام صدام حسين، ومن أشهر من استضافهم من المسؤولين وطبان الحسن، الأخ غير الشقيق لصدام حسين، وعدي النجل الأكبر للرئيس العراقي المخلوع، بل أن التنافس على بعض فرق الغجر أدى إلى صدامات مسلحة بين أولئك المسؤولين، مثلما حدث بين وطبان وعدي حيث أطلق الثاني رصاصة على عمه بسبب خلاف حول توقيت إقامة حفلة لفرقة من الغجر في مزرعتي المسؤوليَن.

ويعد عقد الثمانينيات الفترة الذهبية لغجر العراق، حيث استقروا بعد أن منحتهم الدولة الجنسية العراقية، وبنت المجمعات السكنية لهم سعياً لمشاركتهم في بناء المجتمع، حيث اندمجوا في المجتمع العراقي وفي مؤسساته العسكرية مؤدين الخدمة الإلزامية، وأكمل كثير منهم دراساتهم في المدارس والجامعات العراقية ونالوا شهادات علمية في كثير من الاختصاصات، بيد أن أواسط عقد التسعينيات شهد الكثير من التعدّي على الغجر، إذ أعلن النظام العراقي "الحملة الإيمانية" التي لم تعد تسمح بإحياء الحفلات وأغلقت النوادي الليلية، ولاحقت دور البغاء بالحبس والقتل.

ولم يمر عقد التسعينيات حتّى جرّت الألفية الجديدة الويلات على الغجر، إذ أدى احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة إلى صعود مدّ التطرّف مسبوقاً بتسلّم أحزاب طائفية للسلطة، وهو الأمر الذي دفع إلى تهجير الغجر من مناطق مخدّمة في بغداد، إلى أرياف أخرى متهالكة، حيث بنوا منازل من طين لا يصلها  ماء أو طاقة كهربائية، وفي محافظات وسط البلاد أدّى هجوم الميليشيات الشيعية إلى هدم منازلهم في محافظة الديوانية.

جرّت الألفية الجديدة الويلات على الغجر، إذ أدى احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة إلى صعود مد التطرف والطائفية

وإثر هذا الواقع، لم يعد الغجري في العراق مقبولاً في أي من الأعمال سواء في القطاع العام أو القطاع الخاص، مما اضطر النساء والأطفال إلى التسول في الشوارع والأسواق لكسب لقمة العيش وسط انعدام الخدمات العامة، البلدية منها والطبية، إضافة إلى عدم قبول أطفال الغجر في المدارس، هذا إذا ما توفّرت مدارس في مناطق سكناهم.

اقرأ/ي أيضًا: خلاف المرجعيات بين النجف وقم..العراق لمن؟

وعلى الرغم من أن الدستور العراقي قد كفل في أكثر من 38 مادة من مواده حرية المواطن وأن يعيش ويمارس شعائره وطقوسه، إلا أن الغجر ظلّوا يتعرضون لهجمات منظمة من قبل الميليشيات التابعة للأحزاب الحاكمة بدعوى نشر الفضيلة، كما تعرضوا إلى هجمات من بعض أبناء العشائر، مما اضطرهم إلى محاولة الاختباء في المدن الكبيرة جاهدين في إخفاء هويتهم الحقيقية، أو الهجرة إلى بلدان مجاورة للعراق مثل الأردن وتركيا.

وتبدو الأحداث التي تعرّض لها الغجر في العراق اختزالاً لتفكك النسيج الاجتماعي وغياب المنظومة القانونية في بلاد ما بين النهرين، إذ أن الأحزاب الطائفية الحاكمة التي تتغنى منذ سنوات بالمصالحة الوطنية والتسويات المجتمعية لم تتمكن من حماية الأقليات ومنهم الغجر الذين ما فتئوا يعانون من النظرة الدونية التي قادت إلى إقصائهم بل وإلى تشريدهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

العنصرية محنة الإنسانية المتجددة

مي شدياق.. عنصريات الحرب الأهلية باقية وتتمدد