يخبرنا تاريخ المبادئ أن رجالها لم يستطيعوا المكوث طويًلا في حقل الممارسة السياسية. والمشكلة الأكثر تعقيدًا، أن تاريخ العلاقة بين المصالح والمبادئ هو تاريخ توتر وانعدام النقاط المشتركة. بمعني أنهما حقلان لا يجتمعان في مشترك واحد على الإطلاق؛ فحقل المصالح السياسي يجمع المتناقضات حد التنافر، في حين لا يمكن لحقل المبادئ المساومة؛ فقوامه التجانس والمطابقة، مطابقة الفعل السياسي لجوهر المبادئ. مثلًا يصرح علي بن أبي طالب في معرض حديثه عن المقارنة السياسية بينه وبين معاوية "وما معاوية بأدهى منّي لكنّه يغدر ويفجر". وبهذه العبارة يفصل علي بن أبي طالب فصلًا جوهريًا بين هذين الحقلين بلا أدنى مساومة.
التمايز بين الديني والدنيوي يعني حسم الأمور وتوضيح ما للدين وما للدنيا
في حقل الممارسة السياسية اليوم لا نجد تمايزًا حقيقيًا بين المبادئ الدينية والمصالح السياسية، أي بين الديني والدنيوي: بعض رجال الدين والتنظيمات الدينية يمارسون السياسة، وحتّى هذه اللحظة لا نعرف التمايز الجوهري بين الديني والدنيوي في ميدان الممارسة السياسة. لكن صمّام الأمان يأتي دائمًا بهذه العبارة "أنهم لا يمثلون الإسلام" التي أدمنها الجمهور المؤمن. تستبطن هذه العبارة تنصلًا واضحًا من حالتين: حال الفساد والإفساد الذي يمكن أن تمارسه التنظيمات الدينية باسم الدين، وحالة إفساح المجال لهذه التنظيمات أن تمارس عملها السياسي باعتبارها ممارسة "عَلمانية"! وكما هو ملاحظ أن الجمهور المؤمن يسعى، بقصد أو غيره، بإجراء التمايز بين الديني والدنيوي، بمعنى أنه يسعى لتوضيح الحد الفاصل بين المبادئ والمصالح.
اقرأ/ي أيضًا: عن المجتمع المهزوم
لقد قفز الفقهاء الشيعة قفزة مهمة في هذا التمايز، يوم أعلنوا إيقاف الأحكام مثل الحدود والتعزيزات، بعد غيبة الإمام المهدي، فاسحةً المجال للإحكام المدنية أن تحل محلها. وعند هذه النقطة توقف الفقهاء دون أن يشبعوها تنظيرًا. فلعل الاهتمام بهذه الجزئية المهمة سينشأ على أثرها لاهوت سياسي يضع الحد الفاصل بين الدين والدنيا، وبشكل أخص فصل الروحي عن الزمني وإعطاء كل منهما حقله وممارسته ومواضيعه وأدواته الخاصة. فعلى الأقل حينما يحاجج الجمهور المؤمن سيمتلك مقولات عقلية مُشتقة من اللاهوت المُفترض، وتغدو أدبيات الشيعة واضحة وجلية فيما يخص الدولة وشؤونها والدين وشؤونه، أو على الأقل سيتضح جليًا سلوك التنظيمات الدينية، وكشف القناع الذي يحلو لها التستر به، وهو قناع المبادئّ.
لقد أخطأ الجمهور المؤمن خطئًا فادحًا حينما نظر لحالة التذمر من التنظيمات الدينية وربَطَها بالهجوم على الدين! حتى الجمهور المؤمن نفسه، لا يتوجه إليه الكلام من حيث كونه جمهورًا يلتزم بالطقوس العبادية بعلاقته الخاصة مع الله، بل من حيث كونه جمهورًا سياسيًا. بعبارة أكثر دقة: لا يتوجه الخطاب النقدي للجمهور المؤمن بصفته جمهورًا يؤمن بالمبادئ مفضلًا إيّاها على ميدان المصالح، بل لأنه جمهورًا يخلط بين الميدانين ولم يحسم أمرهما بعد في حقل السياسة. ذلك أن مجمل ردود هذا الجمهور تأتي عادةً حماسية ومتشنجّة وكردود فعل من جمهور مضاد لا يقل عنه حماسة وعاطفية.
إن التمايز بين الديني والدنيوي يعني حسم الأمور وتوضيح ما للدين وما للدنيا، وأعني بهذا التمايز فيما يخص العلاقة بين الدولة والدين، وما هي مساحات التقارب أو التنافر إن وجدت. هل ثمّة نقاط مشتركة بين الدولة والدين أم لا؟ هذا ما يتكفل بشأنه لاهوت السياسة الشيعي. وبما أن الأحزاب الشيعية تهيمن على مجمل مفاصل الدولة العراقية في لحظتنا الراهنة، فالعمل على تحديد المقولات السياسية، وتوضيح المعالم الحقيقية للدولة المُتصَورَة في الأدبيات الشيعية، وإجراء تمايز حقيقي بين التنظيمات الدينية وبين الدين، بين الدولة والدين، بين الجهور المؤمن والدين! لكي تتبدّى معالم الحياد للدولة بالتدريج، أي أن تكون دولة محايدة تجاه الدين ولا تتخذه كهوية لها، والتمايز الأهم: هل هي دولة مبادئ أم دولة مصالح، أم استخدام الأول كقناع والعمل بالثاني في الواقع؟!
اقرأ/ي أيضًا: