التشريعات القانونية التي تقرّها السلطة السياسية الحاكمة هي بالتأكيد تشريعات تعزز من هيمنة السلطة. إنها بالعمق تمثّل نفوذ الطبقة السياسية المهيمنة. لا نعني خلو بعض التشريعات من فائدة للمواطن، بل نعني بالذات التشريعات القانونية التي ترسم ملامح السلطة والعناصر المكونة لهويتها. على سبيل المثال: لا ننتظر تشريعًا للحريات مالم يقيّده تشريع آخر من قبيل "لا يجوز سن قانون يخالف الدين الإسلامي". وهذا الكبح يجري بصورة طبيعية في ظل بيئة ثقافية مذهبية - قبلية تحدد نمط الحريات انطلاقًا من هويتها هذه. فمن هنا (وهذه مزحة ليست مضحكة) لا نجد معارضة سياسية في نظامنا "الديمقراطي" كما أشرت إلى ذلك في المقالة السابقة.
أيًا كانت السلطة فهي تتجه نحو تضخيم ذاتها وإطالة أمد وجودها مالم تجد الكوابح اللازمة للحد من جشعها
هذا وغيره يعزز أسس السلطة الحاكمة ويشجعها على ترسيخ وجودها. لكن نحن هنا لا نقول شيئًا جديدًا بخصوص السلطة وسلوكها، بقدر ما نقرره؛ أي أننا لم نكتشف شيئًا جديدًا حيال السلطة. هذا هو أحد شروط الواقع المعقّدة: بيئة ثقافية تشرعن استبدادها وسط قبول شعبي واسع. وحينما يتجه الفكر نحو هذا الموضوع بلا أفكار مسبقة، فلربما سيخرج بصورة أولية عن إشكالياتنا السياسية والاجتماعية. المهم، أيًا كانت السلطة فهي تتجه نحو تضخيم ذاتها وإطالة أمد وجودها مالم تجد الكوابح اللازمة للحد من جشعها. وهذه الحقيقية هي أيضًا من البداهة بمكان لدرجة أنها لا تستحق التفصيل والاستفاضة في تبيان حقيتها التاريخية. إلا أن البداهة في كثير من الأحيان تغيب عن فكرنا حول حقيقة الشروط الاجتماعية التي أوجدت هذه السلطة، وقوة الحاضنة الشعبية التي تتمتع بها.
اقرأ/ي أيضًا: المعارضة "اليتيمة"
إن الفكر وحده لا يغيّر مالم تتغير شروط الواقع عن طريق العمل السياسي. إن تغيير القناعات والأفكار تعني إحداث عملية تأويل للفكر وليس للواقع! نقد الفكر الديني، مثلًا، لم يغير من الدين شيئًا، لأن الدين يتموضع في مؤسسات غائرة الجذور، فلا يكفي نقده المحض، بل إن التغيير سياسيًا قبل كل شيء. هذه الحقيقة لا تقلل من أهمية نقد الفكر الديني، بل تعزز تلك الحقيقة التي أقرّها ماركس: لا يتغير الواقع إلا من خلال الشروط التي أوجدت هذا الواقع. وهنا لا نحصر هذه الحقيقة بالنظرة الاقتصادوية الضيقة (البنية التحتية تؤثر بالبنية الفوقية)، وإنما أعني بالتحديد قوة التجربة السياسية كآلية عقلانية للتغيير. أي أنها المختبر الوحيد، بحسب غرامشي، لصحة إطارنا النظري وصياغاتنا المنطقية.
ثمّة جدلية ملتبسة بين الفكر ومواضيعه تؤسس لعملية إرباك واسعة النطاق لنظرتنا حول الواقع. إن محاولة تسليط الفكر على مواضيع خارج سياقها الثقافي التي ولدت فيه يعني، باختصار شديد، ممارسة نوع من العبث والجنوح نحو العدمية. لأننا في كل مرّة سنكتشف وقائع غريبة عن واقعنا المعاش، وسيجد الفكر نفسه مرميًا في دائرة العبث؛ إنها حال اغتراب بين الفكر وموضوعاته. معظمنا يصرخ نحو التغيير لكنه لا يريد إخبارنا بالكيفية، معظمنا يرغب بالحرية لكنّه لا يخبرنا عن إمكانيات تحققها في ظل سلطة مهيمنة منفردة بالقرار السياسي، ومعظمنا يريد إنهاء دور هذه السلطة أو التقليل من نفوذها لكنه لا يريد المشاركة السياسية، أي أنه يقاوم فكرة الفاعل السياسي ويعرضها بنفس المقدار الذي يعارض فيه السلطة! إن النظر إلى شروط الواقع المعقّدة سيحيلنا إلى نقاط مرجعية حقيقية وليست موهومة؛ نقاط مرجعية ترشدنا على أن العناصر المكوّنة لثقافتنا العراقية هي المذهب والعشيرة، كما أسلفنا، وعلى هذا الأساس نبني مواقفنا تجاه الواقع. وينبغي أن تكون مواقفنا معززة بفعل سياسي مؤطر بإطار مؤسساتي قائم على أسس عقلانية، لا أن يكون صراخ من أجل التغيير لكنّه في العمق يسلك سلوك العشيرة في تعامله مع الآخرين.
ماذا يعني الصراخ على تشريع قانوني والمطالبة بإلغائه، مثلًا، في ظل انعدام كليّ لمعارضة سياسية؟ يعني أننا بالغنا كثيرًا في تقدير الذات وسقطنا في دوّامة نرجسية لا تقيم أي اعتبار أو وزن ولا تربط ربطًا حقيقيًا بين الفكر وموضوعاته؛ عبارة عن أحكام مسبقة عن الواقع، وتطويعه طبقًا لتصنيفاتنا المسبقة. لذلك نحن نفشل في كل مرة للصراخ نحو التغيير. لا أقول هنا إن التغيير سهلًا على الإطلاق، بل أعني بالتحديد ذلك التغيير الذي يجعلك مقبولًا في أعين الآخرين، وبتعبير أدق: أن تحظى بتأييد جماهيري يكون بمنزلة الحاضنة الشعبية لتحركاتك السياسية. لكن، وللأسف الشديد، انشغلنا بتشكيل الذات بدلًا من تشكيل الواقع! ذلك أن الآليات السحرية لا تقوم على تشكيل العالم وإنما تقوم على تشكيل الذات بالتحديد. تقوم على تحشيد ذهني كبير بمعزل عن الواقع، لذلك كلّما بالغنا في تقدير الذات سقطنا عن أعين الآخرين وفشلنا في تلمّس تأييدهم الشعبي. لو تفحصنا هذه الحقائق بمعزل عن الحساسيات الشخصية، وبمعزل عن عدائيتنا غير المبررة تجاه الطروحات العقلانية، أو على الأقل، تجاه المحاولات المستمرة لتعلم التفكير للخروج من المأزق، أقول ربما سنفهم لاحقًا صعوبة التغيير وأنه ليس رحلة استجمام، بل تحضير واستعداد لربط الفكر بالواقع لتغييره لاحقًا، فالصراخ لا يغيرنا ولا يغير الآخرين، بل سيرمي بنا في ثقب العدمية الأسود.
اقرأ/ي أيضًا: