05-مارس-2020

يمكن لأي تمرد أن يتحول إلى فوضى ما لم يكن مقرونًا بالإيمان بإمكانية التغيير وبالتنظيم (Getty)

الميزة التي يتمتع بها الجيل الجديد هي الشجاعة والجرأة والإقدام. وفي الآونة الأخيرة تم التركيز على هذه الصفات كونها الميّزة التي تفرّد بها دون غيره من الأجيال السابقة. وقد ساهمنا كثيرًا في نقل هذه الصورة من خلال ما نكتب. ساهم الانفجار الانشطاري الهائل للمعلومات، والتقدم السريع للتكنولوجيا، وانتشار مواقع التواصل الاجتماعي في تعزيز القدرات الاستثنائية لهذه الأجيال الناشئة. وكانت الحصّة الأكثر مساحة من التي حصل عليها الشباب، مقارنة بغيرها، هي الحرية. أعني بها حرية التعبير تحديدًا؛ إذ يمكن للشباب البوح بكل ما يرغبون به بصوتٍ عالٍ مخترقين كل الحواجز القيمية التي كانت تحاصر الأجيال السابقة. ومؤكد أن هذه الفسحة الكبيرة، من حرية التعبير، لم تكن تحظى بها هذه الأجيال الناشئة لولا انفجار التكنولوجيا بهذا الشكل العجيب حتّى أصبح لكل فرد مدونته الشخصية وسرديته الخاصة.

منذ تأسيس الدولة العراقية، لم يتعرّض السياسي العراقي لهذا التهكّم والاستهزاء كما يتعرض له الآن من قبل هذا الجيل

إن أهم ركيزة وبنية تحتية يعتمد عليها الشباب هي حرية التعبير. يمكن للفرد أن يستبيح لنفسه ما يشاء في مدونته الشخصية ويستمتع بهذه الحرية تعويضًا عن الحرية الأخرى التي لا يقوى، ربما، عليها، وهي حرية التفكير. ومنذ تأسيس الدولة العراقية، لم يتعرّض السياسي العراقي لهذا التهكّم والاستهزاء طيلة هذا التاريخ. بل لم يشهد التاريخ السياسي العراقي هذا الكم الهائل من الفضائح والتسريبات، والفضل يعود لمواقع التواصل الاجتماعي، إذ وفّرت هذه المواقع مزيّتين: تجعل منك شبحًا يخيف السلطة نسبيًا، وتمنحك حرية التعبير الأمينة، ذلك أن الواقع الفعلي كبّد الشباب خسائر فادحة بالأرواح وهم يقاتلون بهذه الحرية اليتيمة: ذهب عشرات الشهداء وآلاف الجرحى.

اقرأ/ي أيضًا: حلم التغيير وشروطه الغائبة

معلوم أن سمة التمرد هي الحدث الأبرز الذي ميّز هذه الأجيال عن غيرها، لكن يمكن لأي تمرد أن يتحول إلى فوضى ما لم يكن مقرونًا بالإيمان بإمكانية التغيير، وبالتنظيم الذي يضفى على تلك القطعة الجماهيرية المتشظية نوعًا من التماسك والثبات، ما يجعلها مميزة عن الآخرين بالسلوك لا بالشعارات فحسب. لا يمكن الرهان على هذه الحرية وحدها ما لم تكن مدعومة بحرية التفكير التي تُعتبر الدعامة المهمة لباقي الحريات.  ثمّة فائدة قصوى إذا توفرت الحُريَّتَيَن؛ حريّة التعبير وحرية التفكير، ويبدو أن الأولى هي نتاج الثانية في المجتمعات التي مرّت بها الحرية في مخاض عسير.

إن حرية التعبير، وخصوصًا في مواقع التواصل الاجتماعي، تشبه العصيانات التي تحدث في السجون الكبيرة. هذه الحرية اليتيمة لا تصنع لهذا الجيل تطلعاته المستقبلية ولا توفر البنى التحتية للتقدم والازدهار، وكأن لسان السلطات الفاسدة يقول، لكم ما تريدون ولنا ما نريد: لكم حرية التعبير ولنا حرية التخريب. إن أهم بنية تحتية لحرية التفكير هي بناء مؤسسة أكاديمية مهنية ومفكرين أكفّاء ومناهج نقدية رصينة، لا أن تتحول هذه المؤسسات إلى مطابع للشهادات! ماذا تنتج حرية التعبير في بلد يعاني من فساد سياسي وإداري، وسلطة قائمة على الطائفية السياسية، ومجتمع منقسم على نفسه، وسيادة تعاني من الاختلال. باختصار: فوضى اجتماعية وسياسية؟ مؤَكَّد أن لهذه الحرية "فائدة" واحدة، ربما، وهي التنفيس عن كروب العراقيين التي لا تحتمل، لكن هذا التفريغ لا يقطع جذر المعاناة على الإطلاق، وإنما يحوّلها إلى جرح نازف وإعادة إنتاج للمعاناة بأشكال تعبيرية مختلفة.

إن استمرار النزيف دون علاجه يؤدي إلى الإغماء حتمًا. فاستمرار حرية التعبير، بلا مقدمات فكرية ومجتمع مُنَظّم، هي نزيف مستمر؛ ففي نهاية المطاف ستصاب هذه الأجيال بالنكوص والتشظّي والارتداد، لأنها ستستوفي كل أشكال التمرّد ولم تحصل على شيء. وأخطر نتيجة يمكن التعرّض لها هي الرضّة النفسية؛ تلك الحالة المرضية التي تصيب الأنا بمقتل، وتجعلها دائمة الهذيان وتُصاب بالرِدّة،  فتستدعي نماذج الأسلاف والماضي. إذا تعرّضت هذه الأجيال لمثل هذه الصدمة (التي أحد أسبابها الاعتماد على حرية التعبير فقط)، سيبحث الشباب عن نماذج خلاصية ونقاط مرجعية جديدة وقد يجدها - مستسلمًا - في قيمه الاجتماعية المحافظة. وإن بقي مستمرًا على تمرّده فسينقلب - في أحسن حالاته - إلى جيل عدمي وكافر ولا أبالي، فماذا ننتظر من جيل لم تتوفر له البدائل المناسبة في ظل ثقافة تأكل أبنائها؟!







اقرأ/ي أيضًا: 

قلاعهم الحصينة

سياسيو العراق.. أنفاس الموت الأخيرة