09-سبتمبر-2022
الإسلام السياسي

ينطلق الفاعلون السياسيون في العراق من مواقف سلبية (فيسبوك)

"بدأت الحضارة عندما ألقى رجل غاضب كلمة بدلًا من حجر" في كتابه (مستقبل وهم) يؤكّد سيجموند فرويد على أهمية اللغة والكلمة في تكوين الحضارة، وعندئذ انطلق من هذا المبدأ مع صديقه وأستاذه جوزيف بروير في ابتكار "العلاج بالكلام" لمعالجة الأمراض والاضطرابات النفسية.

 الدولة في عقيدة الحاكمين بالعراق ذات سلطة غير شرعية ما دامت لا تستند إلى حاكمية الإمام المعصوم أو نائبه

تستطيع الدولة الحديثة التنازل عن كافّة سلطاتها، وقد تنازلت بالفعل عن كثير منها من قبيل تنازلها عن احتكار الاقتصاد بعد تبلور نمط اقتصاد السوق الحر، وتنازلها عن سلطاتها الثقافية بإتاحة الحريات الصحفية والفكرية والأدبية وغيرها مما كانت تحتكره الدولة وتمارس سلطاتها عليه، إلا أنها لم تتخلى إطلاقًا عن احتكار العنف الشرعي. إذًا لم نبتعد عن عبارة سيجموند فرويد، الحضارة تتأسس على استبدال العنف بالكلمة. إذًا ثمّة كلمة ونقيضها وبينهما يجد الحوار أرضه الخصبة التي ينمو ويثمر بها.

ألا أن ثمّة ما يعيق هذا الحوار، وبالتالي تنتفي السياسة هذه المرة ويعود العنف سيرته الأولى في التحكيم بين متخاصمين، وهذا يستدعي البحث في الأسس التي تجعل الحوار عملية ليست يسيرة، ورغم إمكانية إحصاء مجموعة مؤثرات تترك آثارها في إعاقة الحوار، لكن الفاعل الأيديولوجي يوجّه هذه الفواعل ويشرعنها بطريقة ما، ويعرقل بالتالي إمكانية السياسة القائمة على الحوار أصلًا!

ينطلق الفاعلون السياسيون عندنا من مواقف سلبية من المفاهيم المركزية الحديثة في الحضارة الإنسانية، وهي الدولة والديمقراطية والسياسة والحوار، وإذا ما اضطروا مرغمين للتعامل مع هذه المفاهيم فهم يتعاملون معها وفق قوالب تشوهها مثل الانتهازية أو ممارستها بالحد الأدنى أو ممارستها بعد إعادة إنتاجها ضمن أطر أيديولوجيّة، وكل هذه العمليات تتم تحت شعار الأسلمة، فتذبح المفاهيم على الطريقة الإسلامية لتفقد فاعليتها وتتحول إلى شرٍ مستطير.

 الدولة في الفكر الإسلامي بحسب عقيدة الحاكمين في العراق ذات سلطة غير شرعية ما دامت لا تستند إلى حاكمية الإمام المعصوم أو نائبه، وبدل النأي بنفسهم عن هذه الممارسة غير الشرعية، يستبدلون الشرعية بالمشروعية، أي أنها حالة استثناء بسبب الضرورات التي تبيح المحظورات، لكن هذه المشروعية استغلّت ليست بوصفها طريقًا آخر للسلطة يختلف عن الشرعية ويؤدي مؤداها، إنما هو طريق لمحاربة مفهوم الدولة وإسقاطه، ومن هنا ينبثق سؤال الحشد الشعبي في العراق وأخيه الأكبر الحرس الثوري في إيران، فضلًا عن فاعلية السلطات غير الدستورية في سياسة الدولة.. هذه النماذج غير التقليدية في ممارسة سلطة الدولة تعبّر بوضوح عن فرضيّة استغلال ما يطلقون عليه المشروعية في محاولة إجهاض مشروع الدولة. 

ولا يختلف المنهج كثيرًا عندما يتعلّق الأمر بالديمقراطية، فهي ليست نظام حكم أو برادايم تنظيم السلط في المجتمع، إنما آلية يستغلها الفاعلون السياسيون للهيمنة على السلطة، ثم محاولته تهديمها بمعاول دينية، وما دامت الأمور لا تسير بنحو عقلاني، فالسياسة عندنا معطّلة عن العمل لدرجة أن زعيم ائتلاف دولة القانون نوري المالكي في تسجيلاته المسربة يستهل حديثه بمبدأ أساسي في عقلية الحكام وهو قولهم بعدم الجدوى من السياسة، إلا أنها مطلوبة دون أن يعلل ذلك.

 ولا يبدو الكلام في مسائل من هذا النوع مغريًا أو جديدًا؛ لذا اضطررت للمرور عليه سريعًا فحسب بوصفه تمهيدًا لإشكالية الحوار عندنا.

الحوار غير ممكن نظريًا في ظل عقليات تتحكم في المشهد السياسي ليس لديها ما تتنازل عنه أو ترجعه إلى مرتبة أدنى في سلم أولوياتها، فأي تنازل أو تراجع لا يمكن تفسيره بوصفه مناورة سياسية أو ممكن من ممكنات العمل السياسي، فالموضوع عندنا يتعلّق بثنائية (علي- معاوية) و (يزيد-الحسين) أو (مثلي لا يبايع مثله) فتغلق أبواب الحوار عندئذ وتغيّب بين سطور التاريخ، لا عجب أن مقتدى الصدر رفض الحوار مع خصومه بوصفهم لا يلتزمون بمخرجاته، فلا حوار في إطار ثنائية رمزيات عميقة للخير والشر، إنما ثمّة مسرحيّة تتم على طاولة تفاوض يتم وفقها اقتسام المغانم، دون أي محاولة جادة لمناقشة مناطق الخلاف السياسي، فكلا الخصمين ينظر إلى الآخر بوصفه ممثلًا للشر ولا يمكن عندئذ سوى مشاركته المغانم دون استبيان وجهة نظره أو مناقشتها حول المسارات الممكنة للعمل السياسي ومستقبل الدولة.

الموقف سلبي من الحوار لأنه لا يفهم في إطار ثنائية المنتصر-المهزوم، وما دام الحوار يضرب هذه الثنائية التي ترتكز على أسس دينية وثقافية عميقة، فهو غير مجدٍ ولا يؤدي الهدف الانتخابي المنشود فضلًا عن كونه ليس شرعيًا من الأساس، وعندما يتوقف الحوار يبدأ العنف، وهذا هو الشرعي الوحيد لأنه جهاد في سبيل الله، وهو فضلًا عن شرعيته الدينية يمتلك شرعية ثقافية تتأسس على أصالة الغزو في عقلية يمتزج فيها ما هو ديني بما هو بدوي دون إمكانية تمييز، والسياسي عندنا لا ينطلق في قراره من موقف سياسي أو هو يريد أن يقنعنا بذلك، إنما ينطلق من موقف ديني، وبالتالي فهو بحاجة ماسة إلى فتوى شرعية قادمة من وراء الدولة وحدودها ومؤسساتها ليتخذ قراره السياسي، فهو ما دام ليس صاحب القرار فليس مؤهلًا للحوار.

قد لا يتفق كثيرون على أن سير الأمور وفق تأثيرات الفواعل الدينية - الثقافية، إذ يفضلون مناقشتها ضمن مفاهيم سياسية واقتصادية وتأثيرات إقليمية ودولية، وهذا المنهج ليس خاطئًا، وهو يمكن أن ينتج حلولًا سهلة وعملية، إلا أنّ إنكار أو إهمال الفواعل الثقافية العميقة أو تجاهل البنى المعرفية للفاعلين السياسيين ينتج حوارًا موضوعه الغنيمة وديمقراطية جوهرها الانتهازية ودولة تدار من خارج مؤسساتها وحدودها ورجالها.