02-سبتمبر-2022
النخبة الحاكمة في العراق

التمثيل السياسي يعني المطالبة بالحقوق المدنية للناخبين (فيسبوك)

لم تعد أسطورة "مصلحة المكوّن" و"الدفاع عن المذهب" مقنعة في المشهد السياسي العراقي. ذلك أنّ ما نشهده من صراع داخل هذا المكوّن يعطينا انطباعات كافية أن الفاعلين السياسيين يتصرفون بمنطق عملي محض، قوامه الصراع على المصالح الحزبية، وغايته الأخيرة الوصول إلى كرسيّ الحكم. وهذا جوهر العمل السياسي.

القارئ الموضوعي يستطيع أن يتلمّس بسهولة أساطير السلطة الحاكمة في العراق بخصوص تمثيلها المزعوم للشيعة

 غير أن الممارسة السياسية عند القوم تتخذ أشكالًا عابرة للمنطق السياسي السائد؛ فإذا كانت الصراعات السياسية في الدول المتقدمة قائمة على تنافس الأحزاب حول برامجها السياسية والاقتصادية، ففي العراق يتخذ الصراع شكل التنافس الحزبي حول السلطة بذاتها، وتغدو الهدف الجوهري لكل السلوك السياسي. ولم نسمع في تاريخنا يومًا ثمة صراع من أجل بناء مؤسسات الدولة.

رئيس السلطة التنفيذية يتمنى لو يبقى في عداد الخالدين، نواب السلطة التشريعية يدفعهم الشوق نحو امتيازاتهم الفلكية، السلطة القضائية تعاني من ضغوطات سياسية، الناخبون، على قلّتهم، تدفعهم الميول المذهبية لاختيار ممثليهم في البرلمان، وهم يعلمون قبل غيرهم إفلاسهم التام من الناحيتين: ناحية المذهب وناحية كونهم مواطنين تترتب عليهم حقوق وواجبات. لذلك اعتاد السياسيون أن يشحذوا أدواتهم السياسية بمفاهيم مذهبية لغرض التسويق السياسي وشحن عواطف ناخبيهم المغلوب على أمرهم. حتى لحظة كتابة هذا المقال لم يتصرف الناخبون كمواطنين بقدر ما يمنحون أنفسهم بالمجان لأغراض ومرامي السياسيين دون أن يحوزوا شيئًا ملموسًا وظلوا، حسب تعبير إنجلز، "قطعانًا انتخابية". الناخبون على أهبة الاستعداد لأي خصومة سياسية يترجمون فيها ولائهم غير المشروط لأحزابهم السياسية، وقد حذفوا من قاموسهم السياسي كل المفاهيم التي تحيل إلى المواطنة، والديمقراطية، والحقوق، وما شابه ذلك من المفاهيم الغريبة!

القضية هنا ليست إساءة لأحد، وإنما دحض الادعاء القائل إن الأحزاب السياسية الحاكمة هي أحزاب تمثّل مصالح الشيعة في العراق. ولأن المأساة التي يكابدها شيعة الجنوب وأسلافهم المتواجدين في قاطع الرصافة، شرق القناة، وبعض مناطق الكرخ، وشيعة الوسط، ولأن الموضوع بات مملًا لكثرة الحديث عنه، فأترك التوسعة والتفصيل والأمثلة والشواهد للقرّاء.

إن القارئ الموضوعي يستطيع أن يتلمّس بسهولة أساطير السلطة الحاكمة في العراق بخصوص تمثيلها المزعوم للشيعة. في حين سينشغل المذهبيون بأساطير مصلحة المذهب حتى لو كانوا قاطنين في مدن الحواسم، يفكرون في هذا الصيف اللاهب في "منحة" القطع المُبَرمَج لعدد ساعات الكهرباء الممنوحة لهم من قبل حماة المذهب!

ثم أنني أفهم أن التمثيل السياسي يعني المطالبة بالحقوق المدنية للناخبين، والعمل على رفاههم، وتحسين ظروف عيشهم، وسن القوانين التي تراعي مصالحهم بوصفهم مواطنين لا ذوات مذهبية. هذا هو التمثيل السياسي الذي لم يعد يحتاج إلى معاجم معقدة لكي يفهمه عموم الناس.

إذا كان المقصود هو الحفاظ على مصالح الشيعة، كونهم الناس الأكثر ضررًا طوال حكم الاستبداد البعثي، وقد جاء اليوم الذي يحق لهم اختيار ممثليهم في البرلمان لرفع الحيف عنهم، بعد أن كانوا مواطنين من الدرجة الثانية، بسبب التمايز المجحف الذي كانوا يعانوه، فهذا معلوم ومفهوم. لكن حتى هذا التمثيل يندرج في عداد الأساطير، ولا حاجة إلى التذكير بما قلناه قبل قليل بخصوص الحال المزرية التي تعانيها محافظات الجنوب والوسط الشيعية.

من ناحية أخرى، لا يوجد فصيل سياسي يمكنه أن يزعم تمثيله المطلق لشيعة العراق؛ فالانتخابات الأخيرة كشفت عن الأعداد الحقيقية للناخبين، في حين كان الجمهور الأعظم من الشيعة عازفًا عن المشاركة في الانتخابات، ولم يعطِ صوته لهذه الوجوه التي جرّبها أكثر من مرة وكانت النتائج مخيبة للآمال.

ومن منظور سياسي لا يمكن لأحد التورط بهذه المزاعم: أعني تمثيلهم السياسي المطلق لشيعة العراق، فبعض الجمهور الشيعي -الذي كشف لنا عن حجمه في الانتخابات الأخيرة كما وضحنا- موزع على الأحزاب الحاكمة، وهو جمهور لا تعزز لنا أرقامه المتواضعة عن حجم الأسطورة المتبناة من قبل أحزاب السلطة بوصفها ممثل مطلق للشيعة.

إذًا، لا يوجد فصيل سياسي يمثل التشيع تمثيلًا مطلقًا في العراق ما عدا المرجعيات الدينية التي يرجع لها المقلدون في القضايا الشرعية. إن المراجع الدينية هي الأصدق تمثيلًا لمقلديهم من الناحية الدينية. وما عدا ذلك يتوزع بعض الجمهور الشيعي السياسي على الأحزاب الفاسدة.

 إنّ الأحزاب والتيارات السياسية لا يمكنها التحكم بإيقاع المقلدين؛ فقد جرّب السيد مقتدى الصدر في خطابه الأخير مناشدة الناس حول التغيير، لكنه لم يجد أذنًا صاغية، وظلت الاستجابة محصورة بجمهوره فقط ولم تتعداها إلى فئات أوسع. وببساطة شديدة، وبصرف النظر عن الثقة المفقودة من قبل خصومه الشيعة تجاه سلوكه السياسي، فشيعة العراق لا يرون السيد مقتدى الصدر ممثلًا مطلقًا لهم، ذلك لأنهم ملزمون بفتاوى مراجعهم الدينيين. ذلك أن قضايا التغيير المفصلية تحتاج إلى فتوى شبيهة بفتوى الجهاد الكفائي التي قامت بها مرجعية السيد علي السيستاني، فاستجاب لها شيعة العراق باختلاف توجهاتهم السياسية.

الهتاف باسم المرجعية في التظاهرات السياسية مسرحية لا تجد لها جمهورًا غفيرًا يستمتع بها

الأسطورة تقول إنّ الأحزاب الحاكمة تمثل مصالح الشيعة. والواقع يقول إن المذهب الشيعي كمذهب ديني له رجاله ومشرعوه. فالمُنتَظَرُ من السياسيين هو حقوق الناخبين المدنية، وهذا ما لم يفلحوا به إطلاقًا. وحتى هذه اللحظة ستبقى فكرة المكون وحماية المذهب محض أسطورة، وإن كان بعض المغلوبين على أمرهم يعتاشون على تلك الأوهام.  باختصار: إن الهتاف باسم المرجعية في التظاهرات السياسية مسرحية لا تجد لها جمهورًا غفيرًا يستمتع بها.