02-سبتمبر-2022
الاحتجاجات في العراق

تشعر بعض القوى السياسية بغياب الشرعية (فيسبوك)

لا يمكن لدولة  مثل العراق ظلت لعقود تستمد شرعيتها السياسية من الانقلابات الدموية والصراعات العنيفة أن تستدخل مفهوم الديمقراطية بالصدمة المفاجئة. ومن ثم يشرع الحديث عن "الديمقراطية و الشرعية" ببساطة مفرطة كما حدث في 2003 دون تمرحل انتقالي. الديمقرطية مفهوم يحتاج إلى أن يتجسد في شخصية الفرد ضمن مراحل تنشئته الاجتماعية الأولى، وبالتالي ينعكس ذلك على المجتمع في سياقاته السياسية. في الدول الديقراطية مثلًا، تبدأ عملية الدمقرطة من المطبخ، حيث يتم التصويت بين أفراد الأسرة حول رغبة الأفراد في كيفية قضاء عطلة الأسبوع أو اختياراتهم الفردية في الحياة اليومية ضمن سياقات تمنح تشكل المفهوم و نموه.

والسؤال الجوهري هنا: أين تكمن شرعية النظام السياسي بعد 2003؟

رُبما ظُلم العراقيون مرتان على الأقل من قبل المجتمع الدولي. كانت الأولى عام 2003، حيث قدم الأخير حاملًا الديمقراطية بطريقة "مجوقلة"  كما يسميها العسكر، وهي أضعف أنواع  الديمقراطيات كما يصفها صامويل هنتنجتون في كتاب الموجة الثالثة، لأنها  تُستَدخل  بفعل قوة خارجية، وأن الدميقراطية كمَفهوم  قد لاينجح  بالاستنتساخ  بين  المجتمعات، وإن ضرورة استدخال مفهوم الديمقراطية يحتاج  إلى إعادة إنتاج للمفهوم ذاته دون شوائب معرفية  ضمن سياقات المجتمعات المختلفة.

اكتسبت الديمقراطية في العراق شرعيتها بغزو خارجي في 2003

أما المرة الثانية؛ كانت بعد حركة الاحتجاج الكبيرة  في تشرين الأول/أكتوبر 2019 والتي وَضعت شرعية  النظام على المحك، حينها أخذ المجتمع الدولي دور المتفرج  واكتفى بأنّ على العراقيين أن يُغييروا من الداخل بأنفسهم. وهو أمرٌ من حيثُ  المَبدأ صحيح، ولكن إجرائيًا غيرُ ممكن في ظل بيئة انتخابية غير آمنة من  الكَواتم  يُشرف عليها المجتمع الدولي نفسه.

 إنّ تمرحل التعقيدات للنظام السياسي في العراق تفرض حاجةً ملحةً لتفكيك البُنى المعرفية للمفاهيم السياسية والاجتماعية  لغرض وضعها في سياقاتها التطبيقية وضمن أنساقٍ تنسجم مع حركة المجتمع  التطورية دون تشويه.

ولدت الديقراطية كشعارٍ لغزو العراق عام 2003، واكتسبت شرعيتها بفعل القوة الخارجية وشرعنة إرادة المجتمع الدولي دون المرور بمرحل تطور المفهوم بانتقالية آمنة. كَما أنها لم تحز على شرعية الشَعب "الداخلية" الذي هو مصدر الشرعية والسلطة – وإن كانت قد مورست فعاليات انتخابية، وتحشيد لها، فهي لم تكن سوى شَحنًا انفعاليًا على أساس عاطفة التقليد الديني والتعلق الطائفي دون وَعي ديمقراطي مُحايد. هنا يَكمُن مَأزق الطبقة السياسية اليوم، فَبعد عَقدين من التشبث بِتَلابيبِ السُلطة، فَشلت تلك الأحزاب السياسية في خلق قواعد جماهيرية لها، واكتفت  بخلق طبقة  أتباع زبائنية  تلعب دورًا بديلًا عن الجمهور، ولم تَنجح في تصدير أيديولوجياتها عبر الأجيال. بالتالي اتسعت الفجوة بين النظام السياسي وشرعيته.

إن القوى السياسية اليوم أصبحت قاب قوسين أو أدنى من فقدان الشرعية، وهذا ما دفعها إلى النزول للتظاهرات التنافسية من حيث العدد، ولكن اللحظة الآنية في الوعي السياسي الناشِئ تُحتم الخوضَ في التمييز بين التظاهر والاحتجاج وأنهما مختلفان رغم التشابه الكبير بينهما. 

تَضمن السياقات الديمقراطية في العراق للجميع حق التظاهر أو الاحتجاج سلميًا، لكن الأهم في ذلك، هو التَمييز بين التظاهر كانعكاس للرغبة السياسية، بينما الاحتجاجُ هو انعكاس إلى قضايا تتعلق بالمَظلوميات. حيث تشير الدراسات الغربية والأدبيات الحَديثة إلى أن التظاهرات تحدث نتيجة التعبئة ولغرض الضغط، وهذا ما يحدث في "التظاهر السياسي"، كما لُوحِظ مؤخرًا كتظاهرات التيار الصدري والإطار التنسيقي، والجيل الجديد وغيرها من الحركات السياسية أو الحزبية. بيد أن الاحتجاجات كسلوك سياسي - سايكولوجي تنتج عن الحرمان النسبي الذي قد تشترك فيه أفراد مجموعة أو مجموعات اجتماعية بالشعور بالحيف وعدم المُساواة، وإن التعامل مع مظلومياتهم هو أقل من الاستحقاق العادل، وهذا ما يَتَضح على الاحتجاجات العَفوية في تشرين 2019. كما أن بعض الاحتجاجات قد تَجتمع فيها عدة جماعات ساخطة على خلفية مظلومياتٍ متنوعةٍ، إلا أنّ البحث عن الانصاف فيها يجعل النُظم السياسية هدفها الأوحد في الاحتجاج، فعلى سبيل المثال، قد تشترك مظلوميات أمهات الإيزيديات المختطفات مع أمهات المغيبين من المناطق المحررة  من "داعش" وكذلك أمهات شهداء الاحتجاج التشريني في دافع احتجاجي واحد، وهو "إنهاء الإفلات من العقاب" وإنصاف الضحايا.

 تقول "كيرا هودسون"،  أستاذة علم النفس من جامعة سانت لويس، إنّ "الغرض من أي احتجاجٍ هو خَلق حالةٍ من التناشز المَعرفي بين ما يعتقد بهِ الفَرد وبين ما يتلقاه من معلومات"، وهذا ما يُحتم التَمييز بينَ التَظاهر والاحتجاج كمفاهيم حتى في وسائل الإعلام وصٍناعة الرأي العام.

لذلك لجأت الطبقة السياسية بالنزول إلى الشارع بحثًا عن شرعية جماهيرية مفقودة منذُ 19 عامًا، بعد أن كشفت نتائج الانتخابات المبكرة أنها كانت وهمًا، وأن تظاهراتهم الأخيرة تثشير إلى نقص حاصل من حيث الكم والنوع في الشرعية الداخلية المستمدة من الشعب سواء للنظام أو لوجودهم السياسي. حتى التيار التصدري الذي يُوصَف بِقاعدة جَماهيرية كَبيرة ومُنتظمة، قد يكون صاحبَ الحجم الأكبر في الأتباع والتَنظيم كَتيارعقائدي مقارنة مع خصومه من الكتل السياسية، فالُمتظاهر الصدري مثلًا لم يَخرج لأنهُ قادم من طبقة مَعدومة ومحرومة بِقدر ما هو تلبية لنِداء زعيم تياره السياسي، والأهمُ من ذلك، أنّ الشرعية الداخلية المفقودة منذ 19 عامًا فتحت شهية الخطاب الصدري لدعوة التيارات التشرينية والوطنية الأخرى وكذلك الطبقة الصامتة والساخطة على النظام والتي تشكل الجزء من جبل الجليد الغاطس.

هنا قد ينبري القارئ متسائلًا: "هل مفهوم الثورة تشرينيًا أم مقتدائيًا؟". 

على الرغم من أن  مقتدى الصدر كزعيم سياسي استعمل المفهوم في خطابه الأخير، وهو يُعد لاعبًا سياسيًا، لذلك قد يكون من المُبالغةِ السياسية أن يحمل خطابهُ مفردةً كهذهِ. كما أنّ المبدأ الأساس للثورة كمفهوم انبثق قبل ذلك في احتجاجات تشرين، والتي وضعت الفواعل السياسية  للنظام  أمام استفهامٍ كبير: "هل الشرعية الممنوحة من المجتمع الدولي وحدها كافية لاستمرار السلوك السياسي السائد؟"، بالتأكيد لا.

 ثمةَ حاجة ماسة لشرعية الشعب دون سخط أو غضب، وهذا ما جعل المجتمع الدولي محرجًا إزاء الأداء السياسي لجميع الطبقة السياسية،  إلا أنه ترك الرغبة  في خيار التغيير من الداخل، وهو ما أفضى إلى تهديد الوجود السياسي ليس فقط للطبقة السياسية، بل حتى النظام بصيغته التي اكتسبت شرعيتها في ضوء العرف السياسي السائد الذي تم تأطيره في مؤتمر لندن عام 2002.

تُرى هل مفهوم الثورة بصياغته "المقتدائية" يحتمل تغييرًا لذلك الُعرف السياسي الذي لازم ظله مخرجات الانتخابات وحتى الدستور؟

إذ لا يوحي الدستور بصكوك غفرانٍ  تضمن لذلك العُرف أن يكونَ ضابطَ إيقاعٍ دائمٍ  للُسلطات وفقًا للمحاصصة المكوناتية أو الطائفية المَعهُودة، وهذا ما يجعل بزوغ الشرعية الداخلية تحمل في طياتها مخاوف كسر ذلك العُرف الذي قد لا يُراد له أن يزول.

يبقى من الأهمية بمكان أن يتضمن الوعي السياسي الجديد والمتسارع  مع بزوغ جيلٍ جديدٍ يُشكل النسبة الأعلى من المجتمع.

إن فقدان الشرعية الجماهيرية الصامتة والساخطة على الأغلب هي المعادل الموضوعي  للشرعية الدولية في تحديد مشروعية النظام الحالي وشكله أيضًا، بالمقابل هذه الشرعية التي هي غاية المنال الآن للطبقة السياسية التَقليدية، إلا أنها  تَقبعُ بصمت ساخط  موازٍ لصمت المَرجعية بوَصفها فاعلًا اجتماعيًا ذا مصلحة سياسية في حفظ النظام ، "على الرغم من أن الرأي السائد في عدم تدخلها،  إلا أنّ التدخل (غير المُعلن)  كما حدده الباحث  د.حارث حسن في مقاله الأخير، قد يؤدي إلى كسرٍ "غير مُعلن"  لذلك  الصمت أيضًا، وهذا فقط في حالتي الصِدام الُمسلح أو المَساس بالثوابت الديمقرطية للنِنظام في العراق. هذا التدخل (غير المُعلن) من خلال "شبكة العلاقات لمكتب المرجعية المتمتثل بمحمد رضا السيستاني"، وفقًا للباحث.

الشرعية الداخلية المفقودة منذ 19 عامًا فتحت شهية الخطاب الصدري لدعوة التيارات التشرينية والوطنية الأخرى

لذلك، قد لا يُمكن الوصول إلى عتبة  الشرعية  الداخلية كقُوة فاعلة في إحداث تغيير نوعي وانتقالي من دون تفاعل سياسي - اجتماعي عابر لنطاق "الطاعة العقائدية" بين الصامتين (الجمهور الساخط والمرجعية). أشبه بعقد اجتماعي حول طبيعة مُدركات وديناميات التوجهات السياسية لشريحة كبيرة من  الجمهور الصامت الفتي المانح  للشرعية المفقودة وبين المرجعية الصامتة  كصاحبة أكبر مصلحة سياسية ضمن المناخ السياسي للدولة، بالإضافة إلى القوى الاجتماعية الأخرى، سيما وأن هذا التفاعل قد يكون أكثر صعوبة من الآن في مرحلة   "ما بعد السيستاني"، كما يرى ذلك بعض الباحثين.