26-مايو-2021

لا الاحتجاج يهدأ ولا جشع أقطاب هذا النظام يتوقف (Getty)

منذ تسلّمه رئاسة الوزراء خلفًا لعادل عبد المهدي كان جهد مصطفى الكاظميّ يتركز في العمل حثيثًا بشكل جادّ على أن لا يكون هدفًا لانتقاد وسائل الإعلام وأن لا يصبح غرضًا لمدوّني وسائل التواصل الاجتماعي. فقد عرف ـ وهو الإعلامي السابق ـ أن حكومة سلفه التي سقطتْ مضرجة بدم الشباب المحتجين، إنما سقطتْ على صفحات فيسبوك أولًا قبل أن يُطاف بجثتها في ساحة التحرير مصحوبة باللعنات.

صار بين الكاظمي وبين شباب أيار تمامًا مثل ما بين المالكيّ وشباب شباط وما بين عبد المهدي وشباب تشرين

على الدوام كان لدى الكاظمي رهابٌ من أن يُتداول اسمه في هاشتاك #ارحل، أو أن يرى صورة كاريكاتيرية له، أو أن يقرأ منشورًا لمدوّن معروف يسخر منه. وبسبب هذا الرهاب جعل من أشهر إعلاميي ومدوّني العراق مستشارين له، قرّبهم وأغدق عليهم ووطّد علاقته بوسائل الإعلام التي يعرفها جيدًا بحكم عمله السابق في الصحافة، فكانت فترة حكمه ـ حتى يوم أمس ـ هدنة متقطعة مشوبة بالحذر بينه وبين الإعلام ووسائل التواصل.

اقرأ/ي أيضًا: احتجاجات 25 آيار: قوات الأمن تفتح النار على متظاهري ساحة التحرير

منذ اليوم الذي قدّمتْ فيه كتلتا سائرون والفتح اسم الكاظمي ليكون بديلًا لعبد المهدي حرصت الكتلتان وطواقمهما الإلكترونية على إشاعة أن الرجل خيار التشرينيين وأنه الأقرب لثورة الشباب المغدورة بقناصين وبهراواتٍ وتجييشٍ إعلاميّ عابر للحدود. وبذل شباب تشرين جهدًا مضنيًا من أجل تكذيب هذه الشائعة التي استطابها الكاظميّ ووظفها لخدمته كما استطابتها الكتلتان اللتان جاءتا به.

في مشهد كهذا تكتنفه الضبابية وعدم الوضوح، كان مقدّرًا لرجل المخابرات أن يمضي سعيدًا ـ برغم تهديدات الفصائل المتكررة له ـ حتى موعد إجراء انتخاباتٍ أعلن أغلب شباب تشرين مقاطعتهم لها، لكنّ الكاظميّ عمد قبل أسبوع إلى تبديد شيء من هذه الضبابية حين وجه تحية لمقتدى الصدر باعتباره "قائدًا للمقاومة غصبًا على من يرضى ومن لا يرضى" وردّ الصدريون التحية بأحسن منها على لسان نائب لهم في البرلمان قال: "لا مانع لدينا من ولاية ثانية للكاظمي". سبقتْ هاتين التحيتين تلويحتان، الأولى من الصدر نفسه الذي قال فيها إنه لا يحبذ ترشيح الكاظمي نفسه للانتخابات، قابلها الكاظمي بتلويحة له بعد يومين فقط بقوله جازمًا: لن أرشح.

صارتْ وجهة الكاظمي واضحة إذنْ، ولم يعد عمله مقتصرًا على التهيئة للانتخابات وتحاشي نقمة المدوّنين والتغليس على تهديدات المسلحين، فقد بات على طاولته برنامج الولاية الثانية.

هدف الولاية الثانية مغرٍ إلى الحدّ الذي بمقدوره أن يُنسي الكاظمي رهابه المزمن من انتقاد الإعلام كما ينسيه حرصه على أن يكون اسمه، كاسم من سبقه، مضغة في أفواه المحتجين والمتعاطفين معهم.

وأمس، 25 أيار لم يكن يوم تجاوز الكاظمي رهابه فحسب، بل اليوم الذي استردّ فيه وضوحه بالكامل وصار بينه وبين شباب أيار تماماً مثل ما بين المالكيّ وشباب شباط وما بين عبد المهدي وشباب تشرين. لقد حضر الدم الذي يجعل المعادلة أبسط: قاتل وقتيل.

أمس كان هدف التظاهرات في بغداد واضحًا ومحددًا. افتقد المسحة الحالمة لشعار تشرين "نريد وطن"، كما افتقد النبرة الثورية للشعب الذي يريد إسقاط النظام. كان المتظاهرون يرفعون لافتة فيها كلمتان فقط "من قتلني؟" مطالبين بالتحقيق في حوادث الاغتيالات التي جرت منذ 2019 وحتى اليوم. وهي مهمة كانت الأولى في البرنامج الذي وضعه الكاظمي بنفسه لحكومته.

لم يفاجئ أحد بأن التظاهرة التي طالبتْ بالكشف عن القتلة لم يكن بانتظارها إلا القتلة أنفسهم. والمشاهد التي رأيناها في الصور والأفلام تكاد تكون تنويعًا على صورة واحدة وفيلم واحد يتكرر منذ 2011: ملثمون بلباس أسود يستقلون سيارات مدنية يطلقون النار على الرؤوس، وشبّان يستشهدون وهم يرفعون صور شهداء، أفراد من الجيش لا حول لهم ولا قوّة يحذرون المتظاهرين من مدنيين ملثمين لهم الحول والقوة جميعًا، دم كثير ورئيس وزراء يستنكر ويعد بتحقيق شفافٍ.

واللعبة سمجة ومكررة ولا جديد فيها لكنها السبيل الأوحد لكلٍّ من الطرفين، للمتظاهر المقهور الذي لا يجدّ بدًا من الاحتجاج على وضع مأساوي لم يختبره شعبٌ من قبلُ، وللسياسيّ الذي لا يستطيع التنازل عن مكتسباته التي حازها بالدم والسرقة.

وضع مستغلقٌ يدور به القاتل والقتيل ولا يستطيع كلّ منهما الخروج منه. صارت كلمة الانتخابات لها وقع النكتة على أسماع العراقيين بعد زلزال تشرين، ولم يعد في يد السياسيّ من جديد يقدّمه سوى الوعود التي يضحك هو عليها في سره قبل أن تثير ضحك من يسمعها. خطابات القداسة والطائفية التي شُغل بها جيل 2003 مطولًا ديستْ بأقدام شبّانٍ ما أن بلغوا سنّ الاقتراع حتى صاروا مقاطعين.

النظام السياسيّ يتفسّخ. لم تنجح الاحتجاجات المتتالية في إسقاطه لكنها جعلته يتآكل شيئًا فشيئًا، فلا الاحتجاج يهدأ ولا جشع أقطاب هذا النظام يتوقف عند حدّ حتى مع فقدانه شرعيته الشعبية التي استعاض عنها منذ زمن بعيد بشرعية السلاح ورضا دولة مجاورة.

خطابات القداسة والطائفية التي شُغل بها جيل 2003 مطولًا ديستْ بأقدام شبّانٍ ما أن بلغوا سنّ الاقتراع حتى صاروا مقاطعين

مشهد أمس الذي هو ذاته مشهد تشرين 2019 والذي هو نسخة من مشهد شباط 2011 سيتكرر مع كل رجلٍ تأتي به الكتل إياها وتضعه في هذا الامتحان العسير: رئاسة الوزراء مقابل الدم، أو دعنا نفتش عن غيرك.

هذا الامتحان لم ينجُ فيه أحدٌ حتى الآن ولن ينجو منه أحد.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

نداءات استغاثة.. اعتقال شقيق "سجاد العراقي" ومتظاهرين في ساحة التحرير

احتجاجات 25 آيار تهدر في بغداد: "محاسبة القتلة.. وإقالة الحكومة"