لا زال "التوتر غير المستقر" هو الوصف الذي نعتقده لنوع الحرب بين الولايات المتحدة وإيران تحديدًا في العراق، ولا زال "التوازن" ـ مع وجود استهداف بشري ـ حاضرًا منذ ردت إيران على مقتل الجنرال قاسم سليماني بصواريخ ضربت قاعدة عين الأسد في الأنبار، ذلك الرد الذي كان استعراضيًا ـ إعلاميًا، أكثر منه للإيذاء الفعلي، والتوازن في التوتر غير المستقر تميزه الدماء عن "التوتر المستقر" الذي سيّطر على المشهد قبل قصف قاعدة (كي وان) ومقتل المتقاعد الأمريكي في كركوك.
يُمكن اعتبار رد الولايات المتحدة الأخير على قصف قاعدة التاجي ومقتل جنديين أمريكيين وآخر بريطاني استعراضيًا ـ إعلاميًا
كان الرد الأمريكي عنيفًا على مقتل المتقاعد، ثم جاء الردُ أعنف بعد محاصرة السفارة الأمريكية باغتيال سليماني، ووفق هذا النسق التصاعدي في الفعل ورد الفعل، يُمكن اعتبار رد الولايات المتحدة الأخير على قصف قاعدة التاجي ومقتل جنديين أمريكيين وآخر بريطاني استعراضيًا ـ إعلاميًا، أيضًا، إذ رغم وقوع ضحايا في صفوف الجيش والشرطة العراقية، تؤكد واشنطن أنها لم تكن تنوي استهداف البشر، بل مخازن الأعتدة. يُمكننا أن نتذكر قصف الطائرات المسيرة لمواقع الحشد الشعبي في السابق، كما يُمكننا أن نتذكر الرد الأمريكي على مقتل المتقاعد ومحاصرة السفارة في بغداد، لربما تُعطينا تلك التذكيرات دلائل على طبيعة الرد الأمريكي الأخير وحجمه وما يُراد منه، ومعيار القياس هنا لحجم الضربة هو نتائجها، وليس ما يُصرح به الطرف المقصوف كونه من الطبيعي أن يُعظّم من الضربة لإعطائها الزخم الإعلامي اللازم وكسب التعاطف الشعبي.
اقرأ/ي أيضًا: التوتر غير المستقر.. حروب ما بعد سليماني
محليًا، لا جديد في ردود الفعل من قبل القوى السياسية بوصفها سلطات تنفيذية وتشريعية، أو بوصفها أحزابًا سياسية. يُمكن تأشير انقسام في الرأي حول الطريق الواجب اتباعه لمجابهة الأمريكيين بعد الإجماع على قانون إخراج القوات الأجنبية.
يُمكن اعتبار مباركة كتائب حزب الله للعملية ودعوتها للفرز بين مواقف المقاومة والإعلان عنها، وتحذير حركة النجباء من تغيير قواعد الاشتباك [يؤكد ذلك حدود التوتر غير المستقر] ، ودعوة زعيم التيار الصدري إلى التهدئة، دلائل على ذلك الانقسام الذي نزعمه.
الجديدُ في العملية هو استهداف مطار كربلاء الذي تشرف على إنشائه العتبة الحسينية، واستشهاد وجرح مدنيين يعملون في المطار، وإعلان العتبة رفع شكوى أممية ضد الاعتداء الأمريكي على المطار. لم يسبق للعتبة الحسينية والعباسية وفصائلها المسلحة أن اشتبكت مع القوات الأمريكية ولو على مستوى التصريحات.
لا يوجد مقياس واضح، أو استبيان علمي، لطبيعة ردود فعل الناس حول القصف الأمريكي إلا بمتابعة ما يُكتب من آراء في مواقع التواصل الاجتماعي التي لا يُمكن الوثوق بها تمامًا كمعيار نهائي لفحص المواقف الشعبية بدقّة. رغم ذلك، يُمكننا القول إن هناك موجة استنكار محسوسة للضربة من غير المتعاطفين مع إيران، ظهرت حتى في ساحات الاحتجاج، قد تكون من نتائج تشرين التي سنتحدث عنها لاحقًا، وربما يكون استهداف الجيش والشرطة مع الحشد الشعبي، ووقوع ضحايا بين المقاتلين وليس القادة، عاملًا رئيسًا في صناعة ذلك الاستنكار، بدعوى أن المستهدَفين جنودٌ من الشعب ما أدى إلى استفزاز الحس التضامني الشعبي مع المُدافعين عن أمن المواطنين، والمضحين في قتال الإرهاب وداعش، خاصةً وأن التعاطف الجماهيري مع قادة الفصائل المسلحة انخفض كثيرًا حال ولوجهم عالمي السياسة والاقتصاد. هناك تحسس شعبي عراقي من خلط الجهاد مع السياسة التي يرونها عالمًا للفساد والكذب والمصالح الشخصية بعكس عالم الجهاد المُقدس بمفاهيم الذاكرة الدينية، الذي يتطلب التضحية بالنفس للصالح العام على حساب المصالح الشخصية والمنافع الدنيوية.
بعيدًا عن الذين يضمرون عداءً كامنًا للحشد الشعبي قيادةً وجنودًا، منهم لدعاوى طائفية أو آيديولوجية، ومنهم لأسباب ذكرناها، تتعلق بالفساد، والتحالف مع "داعمي الإرهاب"، هناك من تصاعد كُرهه لهذه الجهة بعد اندلاع انتفاضة تشرين واتهام فصائل في الحشد بقمع المتظاهرين واغتيال ناشطين واختطافهم، وجرّته العاطفة البسيطة للفرح باستهداف من يتهمهم بسفك دماء المتظاهرين. علينا أن لا ننكر وجود هذه الفئة، كما على "فصائل المقاومة" أن تأخذ ذلك في عين الاعتبار، فلا مقاومة دون حاضنة شعبية من الأساس، فضلًا عن مقاومة دولة عظمى كالولايات المتحدة بأسلحة ضعيفة وغيابٍ للتعاطف الجماهيري.
عززت انتفاضة تشرين الخطاب الوطني عبر تأكيد المحتجين الدائم على رفض التدخلين الإيراني والأمريكي في الشؤون العراقية على حد سواء
قلنا مرارًا إن إدانة الاحتلال الأمريكي منذ جاء إلى العراق، وتدخلاته، وإرسائه دعائم نظام طائفي فاسد، لا يعني بالضرورة الاصطفاف مع الجانب الإيراني. وقد عززت انتفاضة تشرين الخطاب الذي نتبناه عبر تأكيد المحتجين الدائم على رفض التدخلين الإيراني والأمريكي في الشؤون العراقية على حد سواء، رغم ما قد يراه البعض من أن تأكيد المحتجين على الرفض الأمريكي هو استجابة لاتهام أجهزة الإعلام الموالية لإيران، للتظاهرات، بأنها صنيعة أمريكية. إن تأكيد المتظاهرين على "عدم أمريكيتهم" بعد كل اتهامٍ من الإعلام الإيراني لا يعني جرّهم للساحة التي تُريدها تلك الأجهزة من وجهة نظرنا، بل هو ضربٌ للاستقطاب الذي يُحاول الإيرانيون وحلفاؤهم صناعته، فمن دواعي سرورهم أن ينقسم العراقيون إلى مؤيد لهم ومؤيد لأمريكا، لا أن يُجمع شطرٌ كبير من العراقيين على سيادة البلاد ووطنية القرار ورفض تدخل الدولتين معًا.
اقرأ/ي أيضًا: معادلةُ "التوتر المستقر" في الشرق المستعر
نعم، إن المواطن/المحتج (على الواقع القائم)، وربما هو تعبير جديد يُمكن إطلاقه على شريحة فعّالة كبيرة من المجتمع بعد الأول من تشرين، غير مُلزمٍ بإصدار بيان موقف بعد كل عملياتٍ عسكرية أو تصريحات سياسية تصدر من الولايات المتحدة أو إيران وحلفائها، كما أن من غير الواجب على هذا المواطن/المحتج الاختيار بين المعسكرين، فإن كان الخيار المتاح الأوحد هو الاصطفاف لأحد المعسكرين فلا داعي للتظاهرات والاحتجاجات الدامية. رغم ذلك، يَصب رفض الاعتداء على مواقع عراقية بطائرات أمريكية من منطلق وطني في صالح ضرب الاستقطاب الذي يحاول الطرفان صناعته، كما أن الرفضَ مفيدٌ في رسم ملامح الهوية الوطنية المطلوبة في هذه المرحلة، والتي عززتها انتفاضة تشرين. بمعنى أن المواطن/المحتج، بنموذجه الجديد، الذي يصنع ثقافةً وطنيةً جديدةً، يرفض العدوان على قوات عراقية في أراضٍ عراقية دون أن يكون مواليًا لإيران، أو متسامحًا مع تدخلاتها، ذلك ضروري لترسيخ هوية واضحة المعالم بإمكانها، بل من الواجب، أن تُهيمن ثقافيًا، بتعبيرات ماركسية.
ماذا عن القصف الآخر؟
قد يُفسّر استنكار القصف الأمريكي والسكوت عن استهداف مقار التحالف الدولي الموجودة بعلم الحكومة العراقية على أنه تأييد ضمني من حيث لا يعلم المرء. هنا ملاحظتان واجب ذكرهما، الأولى أنها ليست دعوة لاستنكار ما يحدث من عدمه بقدر فحص ردود الفعل الشعبية على الحدث، وأسبابها ونتائجها، في حالة حساسة كالتي نمر بها، كما أن هذا المواطن/المحتج ليس حزبًا سياسيًا مطالب بإصدار مواقف دورية حول المستجدات.
نعم، إن رفض عمليات قصف القوات الأجنبية من منطلق سيادة الدولة والقانون أمرٌ صحي بالنسبة لدعاة الدولة الحديثة، الرافضين لحكم الغاب، كما أن حروب الوكالة تتغذى على حجم وقوة وشعبية الحلفاء المحليين، لكن حالة "الانقسام" داخل المجاميع الرافضة للوجود الأمريكي حول الأسلوب المُفترَض لإخراج القوات، بالإضافة إلى "النفور" الشعبي من العمليات العسكرية بحكم الإرهاق من الحروب، واحتمالية تعرض العراق لعقوبات اقتصادية، يتسببان ـ أي ذلك الانقسام والنفور ـ بتآكل ما تتغذى عليه حروب الوكالة، ويُساعِدان في التقليل من أهمية استنكار مثل هذه العمليات، بشرط استمرار الموقف الصريح من الاعتداءات الأمريكية على السيادة العراقية.
يَحصل توازن هنا، يُساهم في صناعة الخيار الثالث بين خياري الاصطفاف مع إحدى الدولتين، الذي إن لم يكن موجودًا فلا بد من إيجاده ودعمه وإسناده، وإلا؛ فلا معنى لأي نضال لا يقف على أرجل تُعلي السيادة الوطنية على الجميع، ويغدو مفهوم "الوطن أولًا" أدبيًا، وفي هذه الحالة، نحن مع إدخال الأدب في الخطاب السياسي الوطني لصناعة ما هو غير ممكن على مستوى القاعدة للتأثير على الهرم، وغيرُ الممكنِ هنا غيرَ ممكن الاستغناء عنه في بناء الدول والأمم والهوية والمخيال الجمعي، وتلك المفارقة التي تُفسر انتكاساتنا.
اقرأ/ي أيضًا: