أغلب ما تعانيه التنظيمات السياسية هو ظهور انشقاقات في صفوفها، وسرعان ما تتحول إلى جبهات مختلفة في الشعارات والغايات. يمكن القول إن بروز ظاهرتي اليمين واليسار، ربما تشكلان أبرز الظواهر السياسية في تاريخ التنظيمات الحديثة، وقد ينشق اليسار على نفسه لينحرف يمينًا ويسارًا ووسطًا، وينطبق الحال نفسه على جبهة اليمين. هذه أمور تحدث في ميدان السياسة وتبدو دوافعها مختلفة، غير أن المعنى الجامع لها، هو الصراع بمعناه العام. إن تعريف التنظيمات السياسية في نهاية المطاف هو الوصول إلى السلطة بالتحديد. يقول أحد الباحثين ما مضمونه، كثيرًا ما أضحك حينما أسمع أن الأحزاب تريد الوصول إلى السلطة، فإن لم تكن وظيفتها بهذا الشكل فماذا تكون يا ترى؟ المهم في الأمر، تبقى هذه الانشقاقات أمرًا طبيعيًا من الناحية السياسية طالما كانت دوافعها هو تنفيذ برامجها التي تؤمن بها، وتحقيق الرفاه والاستقرار والحرية للمواطنين.
العراقيون بعمومهم يتوجّسون من فكرة التنظيم، لأنها تقترن بتاريخ من القمع والإذلال والسعار المحموم على السلطة
يبدو تاريخ العراق السياسي، هو تاريخ انشقاقات وتصدعات وانقلابات وخيانات، وبكلمة واحدة: إنه يخلو من الممارسات السياسية الصحيّة. وقد بدأت ملامح الطغيان بشكلها السافر مع البعثيين، وبالأخص في حقبة صدام حسين وحزب البعث "التكريتي"؛ إذ شرع هذا الطاغية بتصفية رفاق الطريق واحدًا تلو الآخر ليخلي الساحة له ولجلاوزته، ويكون العراق قد دخل حقبة تاريخية مظلمة، لم تنتهِ إلا بمرور أكثر من ثلاثة عقود كانت خاتمتها حفرة ضيقة، يقبع فيها الديكتاتور المغرور مذلولًا ومهانًا بشكل يدعو للشفقة.
اقرأ/ي أيضًا: التنظيم السياسي.. وقاية من الدكتاتورية المضادة
وترك لنا صدام حسين من ورائه تاريخًا من الدم والدموع والفجائع التي لا يمكن أن توصف، مضافًا إلى الفراغ السياسي الكبير الذي خلّفه. إن حقبة الطغيان الصدّامية لم تترك وراءها أي مظاهر للتداول السلمي للسلطة، وقد دمرت كل أشكال التعددية الحزبية، الأمر الذي انعكس على الأجيال اللاحقة بشكل واضح وصريح.
لم تشهد هذه الأجيال يومًا معنىً للحرية والديمقراطية والمواطنة؛ إنه تاريخ حافل بالقبلية والمناطقية والطائفية، التي عزّزت روح الطغيان والتمركز حول الذات والعطش الشديد للتسلّط. ليس لشيء يتعلق بالفضائل الأخلاقية، بل للعبث والاستئثار بالسلطة وبمصائر الناس. ضمن هذا السياق التاريخي المؤلم، فشلت فكرة الحزب وفضيلة الحكم عند العراقيين، ذلك أن السلطة في منطقتنا العربية، تعني المزيد من القتل والقمع والثراء وتحطيم كل مقدرات البلد. ولا زالت هذه الذاكرة تحفر عميقًا في مسامات وعينا، لأن تغيير العادات لا يحصل بسرعة كما هو معلوم.
والجسر الآمن الذي يمكننا العبور من خلاله حالة الاستبداد، هو الممارسة الديمقراطية فيما بيننا. المزيد من الحوارات والممارسات الديمقراطية، يضمن لنا تغيير العادات الاستبدادية القديمة، والانتصار على هذه السلطة الفاسدة. لكن العراقيين بعمومهم يتوجّسون من فكرة التنظيم، لأنها تقترن بتاريخ من القمع والإذلال والسعار المحموم على السلطة. ستة عقود من الحديد والنار جعلت من العراقيين معارضين أشداء لفكرة الحزب، ذلك أن الويلات التي شهدوها بعد سقوط البعث واستبداله بسلطة فاسدة ولا وطنية، ضاعف لديهم القلق عدّة مرات، وجعلهم يستدعون الذكريات المريرة التي مٌنيت بها فكرة التنظيمات السياسية في حقبة البعث السوداء على وجه الخصوص.
لقد انعكست هذه الفكرة سلبًا على شباب التحرير، ذلك أن قلقهم يمشي جنبًا إلى جنب مع انتفاضتهم، ويعرقل مسيرتهم نسبيًا بسبب ذاكرة الاستبداد وأشباحها المخيفة. يقاتل شباب انتفاضة تشرين اليوم على جبهتين: أشباح الماضي التي تستفز الذاكرة السياسية للعراقيين بشكل عام، وقلق التنظيم الذي يراودهم، خوفًا على فشل الفكرة ومصادرة جهودهم، وتسلّق أحدهم على أكتاف الانتفاضة بحجّة التنظيم وفوائده. لكن ماذا نفعل إن كان العلاج الوحيد للحفاظ على امتيازات انتفاضة تشرين هو التنظيم؟!
عادة الاستبداد التي تتفشّى في ثقافتنا، ولا يمكنها أن تختفي ما لم نستبدلها بعادة الممارسة الديمقراطية. والعادات بمرور الزمن تغدو ثقافة متأصّلة
مثلما ذكرنا قبل قليل، إن العادات القديمة لا تختفي ما لم تحلّ محلها عادات جديدة، وبالمثل، إن عادة الاستبداد التي تتفشّى في ثقافتنا، لا يمكنها أن تختفي ما لم نستبدلها بعادة الممارسة الديمقراطية. والعادات بمرور الزمن تغدو ثقافة متأصّلة. إن معالجة أشباح الماضي، التي لا زالت على قيد الحياة، وغلق كل المنافذ التي يشرح منها الاستبداد، هو بالإيمان بالديمقراطية فكرًا وممارسة، وتأطير هذه الممارسة بإطار تنظيمي ديمقراطي يضمن يضمن لأجيالنا اللاحقة وجود تنظيمات ديمقراطية مارست الديمقراطية، وهي مستعدة لتغيير المسار، وبخلافه، سننتظر الثمار بلا أرض ولا فلّاح، والنتيجة هي الوقوع في معضلة الدائرة المغلقة.
اقرأ/ي أيضًا: