كل عام تتنامى فوضى الطقوس الشيعية كمًا وكيفًا من دون إرادة واضحة للتنظيم والإدارة. إذ يكفي أنها ترجمة عملية لأغلبيتنا الديمقراطية!، وهدية مجّانية لسكّان الخضراء. ومن ثم لا ضير لو قُطِعت الطرق وتوقفت الخدمات والوظائف. أكثر من ذلك، فقد دخلت الطقوس في عداد "المحرّم"، ولا يجوز المساس بها؛ فأنت إما عَلماني وتدخل في قاموس الإسلاميين الرجيم، أو عدو للمذهب تحاول النيل من الطقوس الحسينية. فلا مكان لك بين هذه الحشود ما دمتَ ناقدًا ومقوّمًا: إما أن تمشي في الركب أو تسكت خير لك!.
الحشود المليونية التي تمارس الطقوس قانعة وزاهدة بما يجري، يكفيها تلك الحرية الهامشية التي حصلت عليها بممارسة الطقوس الشعبية
ومن دون شك إن هذه الحشود المليونية قانعة وزاهدة بما يجري، يكفيها تلك الحرية الهامشية التي حصلت عليها بممارسة الطقوس الشعبية. وتبقى مسألة الحقوق والخدمات والمطالبة بالعيش الكريم وإيجاد فرص عمل متساوية قضيّة مؤجلة، ما دام الزائر الشيعي يحظى بهذا العزاء العظيم واللطم على الخدود والبكاء الحزين على أئمة أهل البيت.
اقرأ/ي أيضًا: ماذا فعل "شيعة السلطة"؟
ودائمًا ما نسمع الذريعة التالية: إنه يوم واحد في السنة، فلماذا تركزون عليه، علمًا أن هناك ما هو أهم.. وهذا صحيح بعمومه، لكن من الصحيح أيضًا، أن هذا اليوم السنوي يمكن أن يقلب المعادلة رأسًا على عقب، فتتحول هذه الحشود المليونية إلى قوة سياسية عظيمة وتستثمر الحدث الحسيني تحت شعار "هيهات منّا الذلّة". ومن المؤكد ليس المقصود قلب نظام الحكم، وإنما استرداد الحقوق المًستلَبَة التي تسرقها النخب الشيعية من هذه الملايين.
في هذه الطقوس ينشط الوعي الشيعي بطريقة لافتة، ويتفجّر الحماس الولائي بشكل مضاعف؛ حيث يعمد بعض الزوّار إلى إسقاط غضبه لبعض الدمى الرمزية لأعداء أهل البيت و قَتَلَة الحسين، ويشبعها ركلًا وبطريقة هستيرية في بعض الأحيان. وهي بلا شك تحمل مدلولًا رمزيًا عميقًا للرفض الصارخ للفساد والشر والظلم الذي كان أحد ضحاياه الأمام الحسين، فكانت تلك النتيجة المروّعة التي انتهى إليها هو وأهل بيته. لكنّ الزوار يتوقفون عند هذا الأداء الرمزي البسيط، ولا يتعدى الواقع وهمومه وتجلياته المؤلمة؛ حيث الفاسدون يشاركون في هذه الطقوس، وممن ساهموا في إفقار الشيعة يتبرعون في هذا الحدث المهم، وهم على قناعة كاملة بأن هذه الحشود ترتضي لهم هذا السلوك بلا مساءلة أو تخويف. يكفي أنهم أشبعوا الدمى الرمزية ركلًا وصراخًا.
هذه ليست إدانة للفقراء المغلوب على أمرهم، ولا لسكّان مدن الصفيح المغضوب عليهم، ولا للطقوس بذاتها، وإنما لسوء التنظيم واختلاط الشعبي بالديني، وعدم وجود فواصل واضحة بينهما أولًا، وإدانة للنخب السياسية الشيعية التي فشلت في إدارة البلد، وبناء مؤسسات يكون على عاتقها تنظيم هذه التظاهرة المليونية، التي تكاد تفقد مضمونها نظرًا لعدم إسهامها في تحريك الواقع السياسي لصالحها ثانيًا.
ربما لا تتمتع شعيرة دينية أو مذهبية في باقي شعوب العالم بهذا الكم الهائل من الزوار، حتى أنهم يتفوقون، كميًا، على عدد حجاج الكعبة بعدة أَضعاف. لكن هذا الحشود المليونية ظلت فقيرة من حيث الوهج الثوري: ذلك الوهج الذي يقلب موازين الواقع وينتزع الحقوق ويقطع يد الفساد التي امتدت لأعمق نقطة وجعلت من فقراء الشيعة عبارة عن بيادق تحركها نخبهم السياسية الفاسدة.
تبقى مسألة الحقوق والخدمات والمطالبة بالعيش الكريم وإيجاد فرص عمل متساوية قضيّة مؤجلة، ما دام الزائر الشيعي يحظى بهذا العزاء العظيم واللطم على الخدود والبكاء
ماذا نقول لسكّان الخضراء في هذا المصاب الجلل؟!: مبارك لكم أيها "السياسيون" (اللهم لا حسد )، وعظم الله أجورنا بهذه الرزيّة التي يصعب فهمها، ومبارك للفقراء الذين تنازلوا عن حقوقهم المقدسة بطيبة خاطر!. مبارك لكم أيها السياسيون وأنتم تتأهبون ليوم العاشر من محرم الحرّام لممارسة اللطم وطبخ الطعام وارتداء السواد وسط حشود الزائرين الحسينيين. وكأن لسان حال الزائرين يقول لكم "أدخلوها بسلام آمنين".
اقرأ/ي أيضًا: