بعد التغييرات التي شهدها الاقتصاد العالمي خاصة بعد عجز الاقتصاد الأمريكي عام 1984 وما رافقه من تطور الأحداث وتفكك الاتحاد السوفييتي، برزت منظمات عالمية اقتصادية، وتحررت التجارة والاستثمار، وشهد العالم تطورًا تكنولوجيًا في وسائل الاتصال، بشكل جعل العالم يبدو وكأنه قرية صغيرة، مع زيادة متطلبات الحياة.
جرى التحول إلى الاعتماد على القطاع الخاص في العراق بشكل فوضوي جعل صاحب العمل أو المستثمر هو الراسم للسياسات، دون رقابة أو التزام بقانون العمل العراقي
في الوقت ذاته أصبحت فيه الحكومات غير قادرة على سد حاجة السكان وتوفير متطلبات العيش الرغيد، بعد أن كانت تحتكر مختلف القطاعات الإنتاجية، ما دفعها إلى إعادة النظر بمفهوم القطاع العام والتحول نحو القطاع الخاص، ومنها تلك الدول التي كانت تنادي بمبادئ الاقتصاد الاشتراكية.
وبدأت تتجه الدول إلى تشجيع الاستثمار المحلي أو الأجنبي ليقاسمها مهماتها الاقتصادية. بينما يجب أن تتحمل الدولة المسؤولية عن مواطنيها، وحين تكون غير قادرة على توفير وظائف لهم، فمن مسؤوليتها أن تضمن لهم عمل مناسب في القطاع الخاص، عبر سياسات وقوانين مشتركة بينها وبين المستثمر.
من أدوار الدولة أيضًا، رسم سياسات اقتصادية تدفع بعجلة التنمية إلى الأمام دون ترك ذلك للمستثمر الذي يكون هدفه الأساسي، الربح، بأي طريقة كانت. وكان نصيب العراق من هذا التحول بعد عام 2003، إلا انه جاء بشكل فوضوي، جعل صاحب العمل أو المستثمر هو الراسم للسياسات، دون رقابة أو التزام بقانون العمل العراقي.
الدلائل الواقعية على ذلك واضحة، حيث شوهت بعض الاستثمارات عمران المدن، من بناء المولات والمجمعات بتصاميم وأماكن غير مناسبة، خاصة في العاصمة بغداد، بل أن بعضها أدى الى اختناقات مرورية، إضافة إلى أن أغلب الاستثمارات تحمل طابعًا واحدًا، وسط غياب لدور الدولة في تشجيع الاستثمار المتنوع وفتح مصانع بمختلف المجالات ودعم الإنتاج المحلي بشكل يؤدي إلى تنويع الاقتصاد.
من المساوئ الأخرى للاستثمار في العراق، هي استغلال رب العمل للعامل بساعات عمل طويلة مقابل أجور زهيده غير ملائمة لطبيعة العمل ولا تتلاءم مع غلاء المعيشة، فضلًا عن الاعتماد على العامل الأجنبي على حساب العامل المحلي.
يضاف إلى مساوئ هذا التحول الفوضوي، خلق فوارق طبقية وغياب النقابات الاقتصادية والعمالية ومنظمات مجتمع المدني وأجهزة الدولة الرقابية، التي من المفترض أن يكون لها دور في منع حدوث كل ذلك. لكن النتيجة كانت تحول أغلب تلك المنظمات إلى ربحية هي الأخرى تستغل العاملين لديها.
معالجة كل ذلك تتطلب تدخل الدولة، بفرض قانون العمل العراقي لضمان حق العامل ورسم سياسات اقتصادية تؤدي إلى تنويع الاستثمار، الذي بدوره يؤدي إلى خفض نسب البطالة، مع تفعيل أجهزة الدولة الرقابية التي من شأنها متابعة هذه المشاريع الاستثمارية وضمان جودة عملها ومدى إنتاجيتها ومطابقتها لمعايير الجودة.
كشفت حادثة عبارة الموصل عن حقيقة الاستثمار في العراق الذي منح لرب العمل فرصة استغلال العاملين وخلق فوارق طبقية، فضلًا عن دوره في غياب النقابات الاقتصادية والعمالية ومنظمات المجتمع المدني
وللأسف فإن أغلب تلك المشاريع غير ملائمة وسرعان ما تظهر نتائجها السلبية، ومن أمثلتها الشوارع والجسور البالية التي منحت كمشاريع استثمارية لشركات خاصة أغلبها وهمية، وكذلك بناء المتنزهات واستثمارها من قبل القطاع الخاص والتي أصبح المواطن يدفع ثمن نتائجها السلبية، وآخرها غرق عبارة الموصل في جزيرة سياحية، لا تعلم الدولة نفسها من المستثمر فيها، ولا علم لها بمدى كفاءة الألعاب والزوارق الموجودة فيها.
وبالتأكيد فإن معظم هذه الاستثمارات تذهب إلى مسؤولين ومتنفذين في السلطة وفق ما تشير إليه ملفات الفساد المكشوفة والمسربة، دون قدرة على محاسبتها حتى الآن من قبل الجهات الرقابية أو الجهات المسؤولة الأخرى.
اقرأ/ي أيضًا: