يبدو أن حديث الأوساط السياسية والصحافية على حد سواء بات ينصب على الخيارات الاقتصادية للعراق، تحديدًا بعد خروجه من أزمة "داعش"، والمحور الأبرز في هذه الأحاديث هي الخصخصة واقتصاد السوق الحر.
العديد من شركات القطاع الخاص العراقي، ليست إلا أموالًا عامة سرقت، ثم تم تسويقها في الداخل العراقي على إنها أموال خاصة صناعية واستثمارية بكل فروعها
لكن أغلب هذه الأحاديث هي مجرد فنتازيا دعائية مدفوعة مسبقًا، في ظاهرها اقتصاد، وفي باطنها سياسة ومراكز قوى تضخمت ماليًا، تدار من قبل مجموعات أولغارشية بات من الضروري استثمار ما تملكه من ثروات منهوبة.
اقرأ/ي أيضًا: قصة الدولة في العراق: ذلك السؤال الغائب
إلا أن إشكالا جوهريًا يقود هذا التحول نحو الاهتمام بالاقتصاد المحلي؛ الإشكالية هي أن هذا الاقتصاد "فاقد الشخصية" يتجه بشكل عام نحو تفتيت مدخولات الريع، إذ يذهب قرابة نصفه إلى الموظفين العموميين، الذين لا يتم استثمارهم أبدًا، وباتوا يشكلون عبئًا على الدولة، والنصف الآخر إلى استثمارات حكومية توظف شركات القطاع الخاص الذي تشّكّل جزء كبير منه من سرقة الثروات العامة والذي لا ينتج هو الآخر شيئًا يذكر.
إذ أن العديد من شركات القطاع الخاص العراقي، ليست إلا أموالًا "عامة" سرقت، ثم تم تسويقها في الداخل العراقي على إنها أموال خاصة "صناعية واستثمارية بكل فروعها".. لكنها لا تفعل شيئًا سوى أنها تعمل على زيادة حجم المستوردات من السلع والخدمات الاساسية.
هذا الاهتمام الكبير في الخصخصة ليس لكونها المنقذ الاقتصادي للأزمات التي تمر بها البلاد، بل إن الدافع الرئيسي هو خلق سلطة اقتصادية لرجال أعمال قريبين من السلطة السياسية أو مخلوقات هذه السلطة، حتى لا يكون للدولة السلطة الاقتصادية العليا على نفسها مستقبلًا، فيما لو حدثت أي اشكالات سياسية تضرب هذه الطبقات الحاكمة.. فيجد هؤلاء مسوغات للعودة إلى إدارة البلد من منافذ أخرى.
لا يعدو الترويج الى فكرة القطاع الخاص العراقي، سوى خديعة كبرى مورست على العراقيين منذ 2003 وحتى الآن، ويروج لها سادة الفساد في البلاد، وبعض المخدوعين بتنظيرات رؤوس أموال الصدفة، وبعض آخر قبض ثمن الترويج للعولمة والاقتصاد الحر دون فهمه حتى!.
أصبح العديد من العراقيين يدركون أن السياسة الأمريكية في العراق عملت بشكل حثيث على تدمير كل الأسس الاقتصادية للبلاد، وقضت على مفهوم القطاع العام، الذي كان منتجًا وفاعلًا في العراق، ولاعبًا رئيسيًا في بناء الدولة واقتصادها فضلًا عن ترسيخ مؤسساتها سياسيًا، منذ أكثر من نصف قرن.
هذه السياسة الأمريكية عملت بطرق مدروسة ومكررة عمليًا وتاريخيًا، وكأنك عندما تنظر إلى العراق، تكتشف أن روح آدم سميث استُحضرت لتدير واحدًا من أكبر وأكثر مشاريع التخريب والهدم فضاعة، مشروع يشبه ما حدث مع الهند والهند الشرقية والبنغال قبل أربعة قرون.
في العراق كان للقضاء على فاعلية القطاعين العام والمختلط الإنتاجيين بعد 2003 الضرر الأكبر على سير عجلة الاقتصاد بحجة التحول نحو اقتصاد السوق ومواكبة العولمة.
الكارثة هي أن الاقتصاد بالمفهوم العراقي اليوم والذي يراد ترويجه، هو ليس إلا إدارة الموارد بما يخدم رؤوس السلطة، إذ ليس للدولة بمفهومها الشامل ولا للأفراد مكان في دائرة المصالح الاقتصادية هذه، وهي واحدة من أهم الدلالات على أن السلطة في العراق متخوفة غير راسخة، ولا تعمل على إدارة الموارد بما يجعل من الدولة قوية، كما هو الحال في البلدان التي تعتقد أن نظامها السياسي راسخ، والتي تسّخر الموارد خدمةً للدولة ومصالحها السياسية الداخلية والخارجية. وتعتقد هي أيضًا أنها لن تكون كذلك يومًا ما، ولا تعمل إلا وفق مناهج اللصوص الطفيليين في إدارة الموارد!.
لا يعدو الترويج الى فكرة القطاع الخاص العراقي سوى خديعة كبرى مورست على العراقيين منذ 2003 وحتى الآن، ويروج لها سادة الفساد في البلاد، وبعض المخدوعين
لذا فإنك إن تصفحت الأخبار الاقتصادية ستكتشف أن القطاع الخاص لا يتحرك إلا في سياقات تتعلق بقطاع البناء والإنشاءات لمصالح استثمارية كبرى، وأخرى نفطية، ولا وجود لعمل حقيقي في إطار الزراعة أو الصناعة! لكن لماذا؟.
لأن إرادة الدول المحيطة بالعراق والدول الغربية ذات النفوذ على أغلب القوى السياسية العراقية، كلها تدفع باتجاه عدم وجود اقتصاد حقيقي فعال في العراق، وتسعى إلى عدم وجود قطاعات اقتصادية إنتاجية قادرة على إدارة الموارد وتقليل النفقات والسرقات، إذ أن هذه الدول تريد بناء نظام اقتصادي رديف للسلطة السياسية في العراق من ذات الأوليجاركيات المتنفذة على السياسة والتي تنفذ مصالحها، وهؤلاء في النهاية لن يصنعوا عجلة ولن يزرعوا رمانة!!!.
اقرأ/ي أيضًا:
عراق "المحاصصة" الطائفية وسلطة ضد الدولة
الدولة "المفتعلة".. سيرك إقطاع العراق السياسي