13-أغسطس-2022

المحكمة الاتحادية العليا تستطيع العدول عن تفسيراتها السابقة (فيسبوك)

الدستور هو قطب الرحى في عملية الرقابة الدستورية التي تمارسها أعلى سلطة قضائية في البلد، وهي المحكمة الاتحادية العليا. ولما كانت نصوص الدستور تتصف بالإجمال والإيجاز الملم بالمسائل التي تنظمها لكي تظل صامدة من خلال مرونة التطبيق عبر أجيال تتنوع في اهتماماتها واحتياجاتها وتتباين في مقايسها فيما تراه ملائمًا لبقاء مجتمعاتها، فإن عملية تفسير نصوص الدستور يجب أن تنطلق من مبدأ مؤداه (رقي الجماعة المحكومة). 

ارتبك المشهد السياسي في العراق إثر اجتهادات المحكمة الاتحادية

فالتفسير الدستوري هو وضع إرادة المشرع موضع التطبيق بعد استجلاء المعنى الحقيقي الذي أراده واضع النص، أي إرادة السلطة التأسيسية الأصلية التي تعد بشكل عام هي الشعب معبرًا عن إرادته بنفسه عبر النصوص الدستورية التي وافق عليها بالاستفتاء. لذا فهو يعتبر أصل الحكم القضائي الدستوري، أما العدول عنه فهو إبدال حكم قضائي دستوري محل حكم قضائي آخر في نفس الدعوى وحيثياتها السابقة على ضوء ضرورة واقعية لا وهمية. إن جاز الدستور ذلك.

في دستور جمهورية العراق لعام (2005 ) أعطت المادة (94) منه حجية مطلقة للحكم الصادر من المحكمة الاتحادية، أي عدم جواز أثارة المسألة ـ التي سبق وأن فصلت فيها المحكمة ـ مرة أخرى، أي يحوز حكمها على قوة الأمر المقضي فيه. ولكن ارتباك المشهد السياسي حاليًا بسبب اجتهادات المحكمة الاتحادية في مواضيع تمثل عصب سير هذه الدولة، وهو تشكيل الحكومة خاصة موضوع تفسير الكتلة الأكبر وموضوع الثلث المُعطل، وما تسببت به هذه الاجتهادات من ارتدادات سيئة على الواقع السياسي أضرت بشكل كبير حياة المواطنين ومؤسسات الدولة يدفعنا إلى التساؤل: هل يجوز للمحكمة الاتحادية العدول عن هذه الاجتهادات التي تسببت بخرق الدستور مرارًا فيما يتعلق بالمدد القانونية لتشكيل الحكومة وبما تمليه ضرورة الوضع السياسي الحرج الذي يعصف بالبلد؟ على اعتبار أن الضرورات تبيح المحظورات.

من خلال استقراء نصوص الدستور يتضح لنا عدم إمكانية ذلك لسبب الحجية المطلقة للأحكام التي ذكرناها أعلاه. وبتتبع الواقع العملي للأحكام وجدنا سوابق قضائية بهذا الشأن يمكن الاحتجاج بها منها:

  • أولًا: حكم المحكمة في القضية المرقمة (16/ اتحادية/ 2007) الذي جاء فيه: إعطاء الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم صلاحية التعيين والإقالة للأجهزة الأمنية.

وبعد استقراء المحكمة لنصوص الدستور لم تجد ما يشير إلى إناطة صلاحية التعيين والإقالة للسلطات الاتحادية كما ورد في تسبيب القرار، وبما أنّ المادة (115) من الدستور تنص: (بأن كل ما لم ينص عليه في اختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية يكون من صلاحية الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم) وتأسيسًا على ذلك بنت المحكمة حكمها. وتم العدول عنه بالقرار المرقم (74/ اتحادية/ 2009) عندما وردها استيضاح من محافظة ذي قار عن مدى صلاحية المحافظ بالإقالة والتنسيب والنقل بين دوائر الوزارات في المحافظة لأصحاب المناصب العليا.

  • ثانيًا: حكم المحكمة في القضية المرقمة (9/اتحادية/ 2007) التي تتعلق بصلاحية مجالس المحافظات بسن تشريعات محلية، إذ قالت: (من خلال تدقيق أحكام المادة 115 ومواد أخرى من الدستور تبين أن مجلس المحافظة لا يتمتع بصفة تشريعية لسن القوانين المحلية، ولكن يمارس صلاحياته الإدارية والمالية الواسعة استنادًا إلى المادة 122 من الدستور) ولكنها عدلت عن قرارها هذا حين أقرت صلاحية مجالس المحافظات لسن التشريعات المحلية بقرارها المرقم (13 / اتحادية/ 2007).

من خلال ما تقدم نستطيع القول بأن المحكمة الاتحادية العليا تستطيع العدول عن تفسيراتها السابقة وفقًا للمادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة رقم 1 لسنة 2022 حيث نصت المادة: (للمحكمة عند الضرورة، وكلما اقتضت المصلحة الدستورية العامة، أن تعدل عن مبدأ سابق أقرته في إحدى قراراتها، على أن لا يمس ذلك استقرار المراكز القانونية والحقوق المكتسبة). ويلاحظ على هذه المادة أيضًا أنها لم تشترط أغلبية موصوفة للعدول أو إجراءات خاصة تؤدي إلى المزيد من الاستقرار القانوني. وهذا ما نقترحه لتعديل المادة (45) من النظام الداخلي للمحكمة، فبعد هذا التعديل تصبح إجازة العدول متوازنة بين الاستقرار القانوني والضرورات التي تستدعيها.

المصادر:

  • 1_ دستور جمهورية العراق لعام (2005).
  • 2_ قانون المحكمة الاتحادية العليا رقم (30) لسنة 2005 والمعدل بقانون رقم (25) لسنة 2021.
  • 3_ النظام الداخلي للمحكمة الاتحادية العليا رقم (1) لسنة 2022.
  • 4_ المبادىء الدستورية والقانونية الواردة في الأحكام والقرارات الصادرة عن المحكمة الاتحادية منذ تأسيسها، موقع الكتروني.
  • 5_ المدخل لدراسة القانون، عبد الباقي البكري، دار السنهوري القانونية والعلوم السياسية ، 2015، ص 157.