27-مارس-2021

تضاعف مواقع التواصل الاجتماعي حالة المعاناة أحيانًا (فيسبوك)

"حسابنا على فيسبوك يريحنا من عبء المسؤولية المباشرة، إنه يشبه الضحك المسجل في مسلسلات (ست كوم) القصيرة أو النائحات اللواتي يؤجرن في الجنازات، فهم يضحكون ويبكون بالنيابة عنا، بالتالي فإن الحساب الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي هي نسخة نريدها لأنفسنا.. فيسبوك يغذي الأنا لدينا ويزيد من درجة النرجسية، لأنه يتيح للمستخدم الآليات التي يمكن بها أن يصنع صورة جديدة أو بديلة لنفسه". سلافوي جيجك - مٌقتَبَس من مقالة.

بعض الأحيان أدخل في محاكمة مطولة بيني وبين نفسي حول سؤال مركزي دائمًا ما يبرز كإشكالية عويصة بالنسبة لي، وهو سؤال الدافع والثمرة بخصوص طرق تفكيرنا وسلوكنا. وهو سؤال قد يوحي بانضباط عسكري صارم، ويعرقل تصرفاتنا العفوية تجاه الكائنات، سواء كانت كائنات بشرية أو كائنات ذهنية. ذلك أننا نزعم أن مجمل تصرفاتنا تأتي بعفو الخاطر، فلا يوجد مبرر واقعي لإثارة مثل هذه الأسئلة المفرطة بالجدية، وتحيلنا إلى صورة المدرس العمومي، كما يصفه الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، الذي يقحم الآخرين بمقرراته الخاصة على شكل محفوظات وتلقينات، بينما يتصرف المعلمون على خلاف ذلك؛ أنهم يمنحوننا الحرية حتى لو اختلفنا معهم، فالاختلاف مدخل هائل لطريق الحرية. فسؤال الدافع ربما مبالغ فيه بشكل عام.

المبالغة في تضخيم الدور الريادي لمواقع التواصل الاجتماعي يضعنا في حالة انسداد، واعتماد شبه كلي على هذه المواقع  لبنائنا الفكري

 غير أن الاعتراض يفترض افتراضًا لا تصدقه الوقائع، لأننا، في كثير من الأحيان نفتقر إلى هذه العفوية المزعومة، والدليل أن معظم ثمار هذا التفكير والسلوك تنتهي بمشاعر معجونة بالألم والمعاناة. وما حفزني على هذا السؤال بعض حالات الفصام التي تواجهنا في مواقع التواصل الاجتماعي؛ فتصرفاتنا في الواقع ليست نفسها في هذه المواقع. وأزعم أن فئات ليست بالقليلة ربما ستتفق إجمالًا مع هذا الطرح، لأنها، على الأرجح، مرّت بهذا السؤال، أو على الأقل طرحت على نفسها هذا السؤال ولو مرة واحدة على الأقل، أو اكتفت بالسكوت، كعلامة على الرضا.

اقرأ/ي أيضًا: الرغبة بالتغيير.. بين الحلم والحقيقة

ثمة محاولات تسعى للتقريب أو الإسهام في الإجابة عن هذا السؤال، لكنّها تبعّد المسافة من خلال هذه الإجابات، لأنها إجابات تبريرية أكثر منها حقيقية، كونها تفهم السؤال كاستفزاز لوجودها أو تعرية لدوافعها الحقيقة. وبما أن معظم أفكارنا وسلوكياتنا تأخذ صفة الهوية، فتتحول جزء لا يتجزأ من وجودنا، فمن الصعب الوصول إلى الجوهر أو الدافع الحقيقي لتصرفاتنا في هذه المواقع. ومن هذه المحاولات على سبيل المثال وليس الحصر: هي أننا نحاول عبور حالة الفراغ، أو التمتع بالحرية التي نفتقدها في الواقع، أو محاولة لتنوير الرأي العام. وأزعم أنه لا وجود لحرية حقيقية بنحو عام يمكن تلمّسها في هذه المواقع، ولا وجود حقيقي لملء الفراغ، ولا تنوير للرأي العام. وما يشجعني على هذا النفي شبه القاطع (دون أن ننسى أنه لكل قاعدة استثناء) هو تفاقم حالات المعاناة بين أوساط المجتمع العراقي. بل أن هذه المواقع فاقمت حالة مستعصية للغاية، وهي المبالغة في تقدير الذات، وبالخصوص عند من صنعتهم هذه المواقع، فبلغوا حالة من الانسداد بات من الصعب أن نعثر لديهم على حالة من الإصغاء والتفهم والتعلم على الانفتاح، والنتيجة هي مضاعفة حالات المعاناة.

ربما نتلمس فائدة مرجوة من هذه المواقع، وهي النقطة المركزية التي تم إنشاء هذه المواقع لأجلها، وأعني بها التعارف الاجتماعي؛ فأنت في عالم يمكنه أن يقرّب عشرات الأشخاص وتجد نفسك منخرطًا معهم في قضايا الحياة وشؤونها المعقدة، فمن المتعذّر للغاية أن تلتقي بهذا العدد الغفير. وأنا هنا أجادل في فكرة مفادها: أن هذه المواقع للتعارف الأولي فحسب، وليس للصداقات الدائمة! بمعنى أنها توفر الخطوة الأولى للتعارف، ومن ثم يأتي الواقع بتجاربه الغنية ليحكم على هذا التعارف: هل سيتحول إلى علاقة وثيقة أم سيبقى كحالة افتراضية. ذلك أن هذا الفضاء الافتراضي لا يمكنه أن يكوّن لديك علاقات حقيقة مالم تختبرها جيدًا ولفترات طويلة في الواقع. وشخصيًا تكوّنت لدي صداقات مهمة ومنتجة كان سببها الأول هو مواقع التواصل الاجتماعي، لكنّ معظمها لم يتعدَ حالة الافتراض بعد التجربة في الواقع بالطبع.

إن الخلاصة التي وددت توضيحها في هذه العجالة، هي أن المبالغة في تضخيم الدور الريادي لهذه المواقع يضعنا في حالة انسداد، واعتماد شبه كلي على هذه المواقع  لبنائنا الفكري. وهذا ما وقع فيه الكثير من الأشخاص، واعتمادهم شبه الكلي على ردود الأفعال الإيجابية لنشاطاتهم من قبل الجمهور الافتراضي. ذلك أن هذا الجمهور لا يتعدى حدود العالم الافتراضي، ذلك أن هذه الحشود المتواجدة ففيه لم تترجم حماسها إلى رؤية واقعية، وهو جمهور في أحسن حالاته مادة غنية للتعارف وللصداقات الفعلية في الواقع، لكن حتى هذا التعارف، ينتهي أمره في العالم الافتراضي، ويتحول جزء ضئيل منه إلى صداقات حقيقية. فمن وجهة نظري، أن هذه المواقع لا تتعدى حالات التعارف وتبادل المعلومات بشكل عام، وما عدا ذلك هو أمنيات وإسقاطات يجبرنا الواقع المأساوي على تصديقها والتعامل معها كحقائق لا يجوز التشكيك فيها، فبعد أن يتشوه الواقع ويتحول إلى كابوس، فلا مهرب منه سوى الأحلام، وهذه الأخيرة تتوفر بشكل خصب في مواقع التواصل الاجتماعي.

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

حروف من الذاكرة السياسية

أمنيات حاضرة وشروط غائبة