16-مارس-2021

ثمّة مطابقة فريدة فيما يتعلّق بالوعي السياسي العراقي السابق والحالي (فيسبوك)

"أعتقد أنه من الضروري إعادة النظر من جديد في موقفنا الاقتصادي. نرى جيراننا الأتراك والإيرانيين باذلين أقصى جهودهم للاستغناء عن المنتوجات الأجنبية، وكم هي العقبات التي وضعوها لمنع دخول الأموال الأجنبية بلادهم، وكيف لا يبالون بصرف الأموال الطائلة لإنشاء المعامل لسد حاجاتهم؟".. الملك فيصل -15 آذار/ مارس- 1932.

إن عمر المذكرات التي كتبها الملك فيصل يبلغ تسعة عقود. كما لو أنها كُتبت يوم أمس. وبهذه العقود التسعة سرَت شائعات شعبية تقول إن العراقيين لا يحسنون إدارة بلادهم. ولا يوجد لدينا ما يفنّد هذه الشائعات كليًا؛ فلدينا التاريخ السياسي من جهة، أعني به تاريخ الدولة الحديثة في العراق، والوقائع الحاضرة من جهة أخرى، تصادق إلى حد كبير على هذه الشائعات. غير أن المقصود بـ"العراقيين" هنا هم السياسيون بالتأكيد، فالناس، في نهاية المطاف، على دين ملوكهم، ويصادقون اجتماعيًا على كثير من الأفعال طالما أن ساستهم بادروا قبلهم إلى تزكية هذه الأفعال، كالسرقات والفساد والسياسي والإداري. ولكي لا نقع في حبائل التقييم النفسي والمزاجي، لا بد من اقتباس بعض مما جاء من مذكرات الملك فيصل في كتاب "تاريخ العراق السياسي الحديث" ج1، للمؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني. فلعل هذه الاقتباسات تحيلنا إلى وقائع راهنة، أو تحيلنا إلى فكرة مفادها أن ماضي العراق وحاضره متطابقان من حيث الأحداث وطرق التفكير، إذ لا زالت بنية التفكير السياسي والاجتماعي كما هي عليه منذ تشكيل الدولة العراقية الحديثة وحتى لحظتنا هذه. وبالطبع من دون أن نهمل الوقائع السياسية المرّة التي كابدها العراقيون في حقبة الاستبداد المروّعة، والتي طبعت بميسمها الذاكرة العراقية السياسية.

الناس على دين ملوكهم، ويصادقون اجتماعيًا على كثير من الأفعال طالما أن ساستهم بادروا قبلهم إلى تزكية هذه الأفعال

 يقول الملك فيصل "العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سنية، مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسمًا كرديًا أكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي منها بدعوى أنها ليست من عنصرهم، وأكثرية شيعية جاهلة، منتسبة عنصريًا إلى نفس الحكومة، إلا أن الاضطهادات التي كانت تلحقهم من جرّاء الحكم التركي الذي لم يمكنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التدرب عليه، والذي فتح خندقًا عميقًا بين الشعب العربي المنقسم إلى هذين المذهبين..".  ثمّة مطابقة كلية وفريدة فيما يتعلّق بالوعي السياسي العراقي قبل تسعة عقود حتى هذه اللحظة الراهنة! والمشكل الأكبر هو أن المعنيين بالأمر لم يدّخروا جهدًا في تعميق الفجوة بين جماهيرهم لدرجة أن الناظر في وضع العراق الحالي قد لا يضطر إلى مراجعة السجلات السياسية العراقية القديمة؛ ذلك أن الأحداث متشابهة حد المطابقة الكلية. ويتساءل المرء: هل حقًا ثمة إرادة حقيقية للتمرن على إدارة السلطة وتمكين الفئات المحرومة سابقًا من العمل على بناء مؤسسات الدولة بحق؟ الجواب محيّر،  فعلينا الانتظار ثلاثة عقود أخرى للإجابة عن هذا السؤال بشكل دقيق!

اقرأ/ي أيضًا: عن مشرقنا العربي

وفي نفس السياق يكمل الملك فيصل "كل ذلك جعل مع الأسف، هذه الأكثرية، أو الأشخاص الذين لهم مطامع، خاصة الدينيون منهم، وطلاب الوظائف دون استحقاق، والذين لم يستفيدوا ماديًا من الحكم الجديد، يظهرون بأنهم لا يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة، ويسوقون هذه الأكثرية للتخلي عن الحكم الذين يقولون بأنه سيء بحت، ولا ننكر ما لهؤلاء من التأثير على الرأي البسيط الجاهل". في الماضي تخلى الشيعة عن الحكم بدافع الاضطهاد القديم من جهة، وبدافع العمل السياسي المعارض من قبل المؤسسة الدينية التي حكمت بالقطع من عدم المشاركة السياسية مع المحتل، فدفع الشيعة وجمهورهم أثمانًا باهظة، فكانت أسوأ نتائجها أن الأغلبية الشيعية ظلت في طي النسيان يفترسها العنف السياسي. غير أن الوقائع الراهنة تخبرنا أن شيعة السلطة لم يتخلصوا حتى الآن من هذا التأثير، والمشكلة أنه لا توجد إرادة شيعية موحدة لبناء مؤسسات عصرية قادرة على رفع مستوى المواطن العراقي، فلا زلنا قيد الشعارات الرنانة. أما الفساد المستشري في جسد الدولة كما السرطان، والذي أضحى ثقافة اجتماعية، لا نتكلم عنه، لأنه أصبح من الأحاديث اليومية المملة. على أي حال، متى يستشعر الخطر الأكبر مضطهدو الأمس ويبرهنوا بالأرقام والوقائع الملموسة أنهم بناة دولة بحق؟

الكثير من الفئات الاجتماعية العراقية وصلت إلى نفس النتيجة، التي توصل إليها الملك فيصل قبل تسعة عقود، فوثقها وهو يعتصره الألم: "أقول وقلبي ملآن أسى: أنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية، خالية من أي فكرة وطنية، متشبعة بتقاليد وأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سمّاعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائمًا للانتفاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعبًا نهذبه وندربه ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوين شعب في مثل هذه الظروف، يجب أن يعلم أيضًا عظم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل". ويظهر مما تقدم أن القائمين على السلطة الآن ربما أدركوا مغزى هذا الكلام، فسارعوا إلى تقطيع الجسد العراقي إلى ثلاثة شعوب بحجة التوافق، فتحول هذا الأخير إلى ثلاثة مراكز قرار تعاني من القرار السياسي الوطني الموحد. فأصبح ما كان مصدر أسى للملك فيصل واقع حال يتلاعب به السياسيون طبقًا لميولهم المذهبية والعرقية. بمعنى آخر، أنهم كانوا مترجمين حقيقيين لهذه اللوعة؛ فبدلًا من العمل على هذه الوثيقة التاريخية وتأسيس ثقافة العيش المشترك، عززوا مخاوف الملك فيصل على أرض الواقع، أي منحوها الشرعية السياسية والدستورية!

لا ينطلق الكلام في هذه المقالة من هذه الثنائية الغبية والبغيضة (أنصار الملكية وأنصار الجمهورية)، التي تتناسى حقيقة بديهية: إن الاستبداد في مشرقنا العربي لم يغير  من مضامينه القيم الملكية أو الجمهورية، وهذا لا يعني بالطبع تبريرًا أو ميولًا معينة لهذا النظام أو ذاك، بقدر ما هو استذكار وتأمل في طبيعة هذه الأنظمة "الجمهورية الحديثة" التي قطعت الحبل الذي كاد أن يربطنا بالعالم الحديث، فلعله كان بإمكانه، مع الجهود الوطنية المخلصة والنزيهة، من بناء نظام سياسي وطني ديمقراطي تعددي، فقد أعيتنا الشعارات والصراخات الجوفاء التي ترجمت نفسها في نهاية المطاف إلى سعار مزمن تجاه السلطة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بلد المحاكاة المُشوَّهَة

الحلم العراقي المُؤَجَل