03-مارس-2021

عجز النظام السياسي العراقي عن إطعام شعبه بمحصوله المحلي (فيسبوك)

منذ عقود مضت من تاريخ العراق ولا زالت المعادلة المقلوبة كما هي: الشعب في خدمة السلطة. وبتعبير أدق: الشعب في خدمة القائد الاوحد. وأيًا كان الأمر فخلاصته تنتهي عند عتبة السلطة. ولكثرة الركام الهائل الذي خلفته سلطة الاستبداد في الذاكرة الجماعية، أصبح من النادر للغاية أن تسمع الفرد العراقي وهو يناشد مؤسسات الدولة، لأنه سينادي العدم! ذلك أن الشاخص والبادي للعيان هي السلطة بمعزل عن مؤسسات الدولة. لذا نجد العراقيين بمختلف توجهاتهم دائمًا ما تشد رحالهم نحو السلطة. وهذه الأخيرة لو جرّدناها من مكوناتها فلم يبقَ منها سوى شخص واحد لا غير. وسواء كان النظام برلمانيًا أم جمهوريًا فسينتهي إلى نفس النتيجة، وهي توجه الأنظار نحو الرجل الأوحد.

كان على العراقيين أن يجهدوا أنفسهم للسهر على راحة صدام حسين والتصفيق وإلقاء الأناشيد والموت لكي يبقى "القائد الضرورة" على قيد الحياة

والسلطة في منطقتنا تعني، بحسب فتحي المسكيني، هي سياسة القطيع؛ سياسة الراعي الذي يقوم بأعباء تربية القطيع البشري على نحو جيد. إن الزعيم الشرقي هو مربي القطيع البشري بامتياز، على خلاف بنية التفكير الغربية التي تنتصر للمدنية والديمقراطية وحكم المؤسسات. إذا تهاوت السلطة في الغرب فلا يعني هذا شيء على الإطلاق؛ فالمؤسسات حاضرة وتعمل بانتظام. لقد انتصرت قيم الديمقراطية والحرية على حماقات ترامب ونزقه الصبياني، فمسيرة قرون من التنوير الأوروبي عمومًا، وسير الديمقراطية الأمريكية خصوصًا، تأبى أن تأخذ دور المتفرّج على شخص متقلب المزاج، ويهدد، بنحو وبآخر، قيم الديمقراطية وحكم المؤسسات. هذا مثال سريع وخاطف لمعنى أن تكون ديمقراطيًا.

اقرأ/ي أيضًا: عندما تُسحب دولة عظمى إلى "الدكَة العشائرية"

غير أن ترك المقارنة بهذا العموم، أعني المقارنة بين الشرق والغرب من منظور سياسي، تعاني من بعض التلكؤات. فالمشرق العربي السياسي بأرثه الاستبدادي لم يصل حتى الآن لمقارنته بالشرق بعامة؛ فمن الإجحاف مقارنة الرئيس الصين، كمربٍ للقطيع البشري حسب السردية أعلاه، برئيس من المشرق العربي. ذلك أن التوليفة الصينية الفريدة لم تترك لنا مجالًا للمقارنة، بل أن أصل المقارنة معدوم كليًا. صحيح أن الرئيس الصيني يُنظر إليه هناك كمربٍ وعلى أنه "الأخ الأكبر"، وأن الصين ليست دولة ليبرالية على أي حال، لكنها دولة خطفت أبصار العالم وهي تكدس الأرقام الهائلة من العملة الصعبة، وتحقق أعلى نسب نمو، واستطاعت القضاء على الفقر، وضيّقت الهوة بين الريف والمدينة، وهي العملاق الحضاري والصناعي القادم بقوة. ويمكن كتابة عشرات المقالات عن إنجازات الصين، أو بتعبير أدق عن "المعجزة الصينية". غير أن "المقارنة" هنا تهدف إلى موضوع مركزي وهي السردية الشرقية القائمة على سياسة "مربي القطيع البشري".

فلو قبلنا بهذه السردية (وهي سردية تؤكدها الحقائق التاريخية على أي حال)، وتنازلنا عن حكم المدنية والديمقراطية، وارتضينا بـ "السيد.. القائد.. المربي" فأين سجاياه ومزاياه من هذا الخراب؟! أعني أين نجده في تاريخنا الحديث والمعاصر؟ سنجده، بالتأكيد، في شخصية صدام حسين على سبيل المثال لا الحصر! هذا "المربي" الذي أدخل البلاد والعباد وفي طاحونة حروب لا زلنا ندفع أثمانها حتى هذه اللحظة. كان على العراقيين أن يجهدوا أنفسهم للسهر على راحة صدام حسين والتصفيق وإلقاء الأناشيد والموت لكي يبقى "القائد الضرورة" على قيد الحياة، وكانوا عليهم أن يتابعوه حتى الرمق الأخير وهو مدفون حيًا في حفرة ضيقة.. فلا أعرف وجه المقارنة، إن صحت لنا في يوم ما لدراسة بنية الشرق الاستبدادية؛ فهل يتساوى صدام حسين، مثلًا، مع الرئيس الصيني شي جين بينغ؟! بالتأكيد لا يرتضيها عاقل على وجه الأرض. وبالمناسبة، ليس المقصود هنا إقامة مفاضلة بين النظم الديمقراطية وبين "الشرق الاستبدادي، فالمشكلة أكبر من ذلك بكثير. المشكلة هو أننا، في مشرقنا العربي، لا نحظى حتى بالمقارنة مع باقي النظم الاستبدادية الشرقية، هذه هي المشكلة بالضبط!

لقد تمكن النظام الاستبدادي الصيني، على سبيل المثال، من إطعام قارة بأكملها، وهي تأكل من محاصيلها المحلية، بمعنى أن هذه القارة تأكل ثلاث وجبات في اليوم الواحد! في حين عجز النظام السياسي العراقي (لا أعرف ماذا أسميه) بجغرافية قد تتساوى بأحد المقاطعات الصينية، عن إطعام شعبه بمحصوله المحلي، علمًا أن المساحات الخصبة في العراق قادرة على تحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء. أكثر من ذلك: إن الصينيين يأكلون ويلبسون ويصنعون من جهد أيديهم، فللمرء أن يتساءل: ماذا يعني أن نوضع في سياق الاستبداد الشرقي؟! لذا فمن المنطقي أن نفكر في المشرق العربي على حدة بمعزل عن سردية الاستبداد الشرقي، فالأمر معيب للغاية، ذلك أنه حتى المستبدين يتفاضلون فيما بينهم، ونظامنا السياسي لم يترك لنا خيطًا واحدًا نتمسك به للمفاضلة. مرة أخرى هذه ليست مفاضلة بين الديمقراطية والاستبداد، بل هي مقارنة بين نظم سياسية قابلة للتعريف، وأخرى عصية عن التعريف مثلما يحصل في مشرقنا العربي.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

بلد المحاكاة المُشوَّهَة

الحلم العراقي المُؤَجَل