إنك لا تغيّر الأشياء بمحاربة الواقع القائم. فلكي تغيّر شيئًا، ابنِ أنموذجًا جديدًا يجعل الأنموذج الموجود يندثر ."ب. فولر".
طبقًا لسجل الأولويات الجماعاتية، تحتل التضامنات في وجدان الجماعات الهمّ الأقصى مقارنة بالدولة ومؤسساتها. ويصل التضامن لدى الجماعات الدينية والأثنية والعرقية إلى أقصاه، ويقع في مفاضلة خطيرة ومعيارية تميل إلى تعميق حس التضامن بين الجماعات ذاتها، في الوقت الذي يغيب فيه مفهوم الوطن والولاء على أساس المواطنة. وحتى هذه اللحظة لا زالت الهويات الفرعية تحتل المقدمة في الممارسة السياسية والاجتماعية، إذ لا زالت الدولة ومؤسساتها العصرية تعني تهديدًا شديد الخطورة يربك وجودها القائم على هذه "الهويات القاتلة" في بعض الأحيان. والأغرب من ذلك، أن التاريخ يخبرنا بهذه الحقيقة: إذا كنت تنشد السلطة والهيمنة والقوة فعليك بالبناء الراسخ كأحد الأسس المتينة لفرض الهيمنة؛ فمن خلال توفير النموذج ستعلن بض الفئات الاجتماعية الناقمة قبولها العام ويقل التذمر والإحباط فيما بينها. غير أن الجماعات السياسية في العراق لها رأي آخر!
العدو الأول للجماعات الفرعية هو مؤسسات الدولة، وهي بمنزلة الكابوس لطموحاتهم وأحلامهم الجامحة
على سبيل المثال، أن النقاش بين الديني والدنيوي بدون استحضار النموذج المقنع، يشبه حوار الطرشان. بمعنى، ما لم يوجد نموذج بديل يحل محل المؤسسات القديمة، فسيكون الكلام مضيعة للوقت. لكن، وكما قلنا، فأن ثقافتنا لها رأي آخر؛ ففي مشرقنا العربي، والعراقي على وجه الخصوص، يبدو مفهوم الدولة من هذه الناحية عصيّاً على الفهم ويقع في مفاضلات تنتهي بالحكم لصالح السلطة، ويبقى هذا المفهوم أحجية غامضة جدًا مقارنة بعطش السلطة المٌحَبّب في ثقافتنا. ومن غير نموذج حاضر تغدو كل الحوارات عقيمة ومملة وتدعو للإحباط.
اقرأ/ي أيضًا: ثلاث حكومات وجغرافية واحدة
إن نسيان الجوهر الأساس في الممارسة السياسية الذي يقوم عليه أي فاعل سياسي ما، وأعني به التطلّع لبناء مؤسسات عصرية في مثل حالتنا العراقية، يعني استنزاف وجهد بلا طائل. فثمّة أمر غائب عن فهم الكائن البشري وهو المعاناة، ذلك أننا مهما تلوّنت أشكالنا واختلفت هوياتنا، يبقى هناك شيء لا يفارقنا وهو الإحساس بالمعاناة، ذلك الإحساس العميق الذي يتوزع بطرق مختلفة على مجمل حياتنا النفسية والاجتماعية والسياسية. وغياب الدولة ومؤسساتها يعمّق هذا الشعور بطرق مختلفة، بدايةً بغياب الأمن ونهاية برخص الأرواح المٌعَلّقَة على مذبح المجهول. العدو الأول للجماعات الفرعية هو مؤسسات الدولة، وهي بمنزلة الكابوس لطموحاتهم وأحلامهم الجامحة، فالمرشّح الأول من هذه الناحية سيكون الدولة، ويحتلّ خرابها سلّم أولوياتهم! لذا علينا ألا نستغرب من هذا الأمر الغريب، وهو التعمّد الواضح لإبقاء كل شيء كما هو عليه.
إن الجماعات الدينية حتى بوصفها جماعات فاعلة سياسياً، تتعرض للضيق الشديد فيما لو تعرضت للنقد، وستدافع عن مكتسباتها بأي شكل من أشكال التبرير، لأنها ليست معنية بالنظريات العقلية بقدر ماهي معنية بالدفاع عن عقيدتها بأي شكل من الأشكال. ليس هذا فحسب، بل تنخرط في تضامنات خطيرة تجعل من الحدود أمر مستباح وقضية هامشية مقارنة بالتضامنات التي تعقدها هذه الجماعات فيما بينها، ويغدو الوطن جسرًا وسَكَنًا في خيمة وسط الصحراء قابلًا للاقتلاع في أي لحظة، فولاءات البدوي تتعدى بيئته المؤقتة، ولا يقيم وزنًا للمكان طالما هذا الأخير لا يتوفر على المرعى الكافي. غير أن العراق حتى لو كان مرعىً خصبًا فسيظل العداء للدولة ومؤسساتها هو اللغز الذي سيشغل الأجيال اللاحقة حول السبب الجوهري في هذا العزوف الخطير عن البنيان والتأسيس. وإن تصفح سريع لسجلات التاريخ السياسي العراقي فسيدلنا على مشاهد درامية عجيبة قوامها الصراع المحموم على السلطة: أنه تاريخ موجع من المؤامرات على بعضنا البعض، والانقلاب على بعضنا البعض.
إن استحضار النموذج أفضل بكثير من الجدل غير المجدي، وهذا النموذج المفترض هو الأداء السياسي المقنع لترجمة خطابنا من عالم الأحلام والأمنيات إلى عالم التحقيق والواقع، وأيًا كانت عناويننا (تنظيمات دينية أم دنيوية)، ذلك أن معيار الصحة في الصراع السياسي هي الممارسة بالتحديد فالكثير من الإخفاقات التي تقع فيها أي جماعة، مصدرها الغرور، والحماسة، والمبالغة في تقدير الذات. نكران الذات هو الخطوة الأولى نحو التأسيس، ومن المرجح أن هذه الخطوة ستكون معدومة في المستقبل القريب على الأقل. وحتى ذلك الحين، لا وجود لفعل مقنع سوى الشعور بأهمية الذات، ذلك الشعور الذي يبتلع كل منجز ويحكم عليه بالإعدام.
اقرأ/ي أيضًا: