13-فبراير-2021

لمن المعيب والشائن أن تتنكر الفئة العراقية المقهورة بالأمس لكل وعودها (فيسبوك)

إذا كانت الفئة المقهورة "شيئًا" بالأمس فإنها لم تعد كذل اليوم، بل أصبحت كائنًا تاريخيًا، طرفًا في العملية التاريخية. وإذا لم تكن مسؤولة بالأمس؛ لأنها كانت "تقاوم" إرادة أجنبية عنها، فإنها تتشعر -الآن - بالمسؤولية الملقاة على عاتقها؛ لأنها اجتازت مرحلة المقاومة، وباتت بالضرورة ذاتًا فاعلة ومبادرة. أنطونيو غرامشي- قضايا المادية التاريخية.

مؤكد أن الفاعل التاريخي يسهم في دفع حركة التاريخ لأقصاها، ويكون الكلام عن الصيرورة  أمرًا ذا معنى، ذلك أن الصيرورة مع الفاعل التاريخي تنطلق لمكانها المرسوم. فثم فاعل شديد التبصر ينظر إلى عمق الأحداث ويراقبها، ويحاول جاهدًا تسيير دفة الأحداث لصالح الأيديولوجية التي يؤمن بها. فلا صيرورة يمكنها أن تفضي إلى نتيجة مرجوّة مالم يكن ثم وعي يراقبها ويضبط إيقاعها ويتبصّر تناقضاتها. فبخلاف ذلك نغدو خارج حركة التاريخ، وفي أحسن حالاتنا سترمينا الأحداث في أقصى الهامش، ونتحول إلى أدوات صالحة للاستهلاك، ذلك أن حركة التاريخ لا تتطوع جريًا مع رغباتنا وأوهامنا مالم نتبصرها وندرك تناقضاتها ومنطقها السياسي الملائم لمرحلتها. والدليل على ذلك أنه ثمة شعوب ظلت في هامش التاريخ لأنها لم تفهم اللعبة جيدًا، وقد فاتها قطار التقدم دون رجعة.

حركة التاريخ لا تتطوع جريًا مع رغباتنا وأوهامنا ما لم نتبصرها وندرك تناقضاتها ومنطقها السياسي الملائم لمرحلتها

مهما كانت طبيعة الثورات التي حدثت في التاريخ السياسي العالمي، ومهما كانت نظرتنا تجاهها، ومهما كانت درجات الإخفاق والتلاعب في منجزاتها، فهي تبقى شاهدًا تاريخيًا على أهمية الفاعل التاريخي، ذلك الفاعل الذي كان بالأمس مظلومًا ومضطهدًا، فغيّر المعادلة عبر قفزة نوعية هائلة، فتحول من مقاوم إلى فاعل سياسي مهم وأساسي في عملية البناء والتنظيم في تشييد البنية التحتية لمؤسسات الدولة. وهذا ما فعلته البرجوازية الصاعدة في ما سمي بـ"ربيع الشعوب أو الثورات الأوروبية عام 1848"، وقضت على الهياكل الاجتماعية والسياسية التي أرستها سابقًا طبقة النبلاء والإقطاعيين، وكانت في ذلك الحين بشارة العالم الحديث؛ عالم الحقوق والحريات، وأنشأت لاحقًا إمبراطورية اقتصادية وسياسية و صناعية عظيمة لا زال العالم يدين لإنجازاتها حتى هذه اللحظة.

اقرأ/ي أيضًا: الفردوس العراقي المفقود

 ويبدو أن الثوار كان يجمعهم الهم الأقصى، والخروج، مهما كان الثمن، من سجن المظلومية والاضطهاد فجنوا لاحقًا حصاد السنين العجاف. وينطبق الأمر، مع اختلاف التوجهات الأيديولوجية بالطبع، على الثورة البلشفية الروسية ومثيلتها الصينية مع اختلاف بعض التفاصيل، غير أن الهدف الأساس المحرك لكلا الثورتين هو الانتصار للكادحين. أسّست الأولى إمبراطورية سوفيتية دامت سبعين عامًا، بينما ظلت الثانية حتى هذه اللحظة كإمبراطورية اقتصادية هائلة تشكّل صداعًا مزمنًا للقوة العظمى وعلى رأسهم الولايات المتحدة. لقد رفع ماو تسي تونغ في وقتها شعار"لا تنسوا الإذلال القومي".

كان ماو تسي تونغ مقاومًا شرسًا وكان حلمه يتمحور حول هذه القضية المحورية: بناء الصين كدولة قوية لها خصوصيتها الثقافية وإنهاء حقبة طويلة من الاستغلال والإذلال فكان بحق مهندس الصين الحديثة. ومن جانب آخر ثمة مساحة نقدية واسعة تجاه الرجل، لكن كل هذا لا ينفي دوره التاريخي العظيم في نهضة الصين الحديثة، وهي اليوم تدين للكثير من قادتها وعلى رأسهم ماو تسي تونغ. وبالطبع لا يشذ لينين عن هذه الحقيقة التاريخية وعن مقدار الآلام التي كابدها وهو يؤسس دولته الناهضة والفتية والقادمة بقوة.

وكما أسلفنا توًا، فإن المساحة النقدية مفتوحة على مصارعيها، وفي بعض الأحيان تثير الشهية فيما لو تعلق الأمر بالتجربتين الماوية واللينينية أو الستالينية بالذات، لكن كل هذا يمكن تناوله في الدراسات العلمية الجادة، وما يهم هنا هو التذكير بأهمية ودور الفاعل التاريخي، وانتقاله من طور العمل والكفاح المسلح، إلى دور الفاعل السياسي الذي يمتلك مقاليد السلطة فيبدي صدقًا وتفانيًا قل نظيره لتحقيق ما كان يصبو إليه أيام المقاومة.

 إنها مقارنة خاطفة (إن صحت هذه المقارنة المزعومة!)، بين تجربتين تاريخيتين، وأعني بالطرف الثاني من هاتين التجربتين هي التجربة العراقية؛ هل تنكر "مظلومو" الأمس لوعودهم؟ هل حقًا أنهم فاعلون تاريخيون؟ ما الذي فعلوه طوال هذه السنين العجاف؟ أم أن الأسئلة أكبر بكثير من هذه "النخب" الحاكمة؟ إنه لمن المعيب والشائن أن تتنكر هذه الفئة المقهورة بالأمس لكل وعودها؛ إذ ظلت حتى هذه اللحظة أسيرة أزماتها التاريخية والأيدولوجية دون أن تتشكل من هذه الناقضات نخبة فاعلة وحقيقية ترسي دعائم الدولة العراقية. وحتى ذلك الحين سنتوسل الاحداث التاريخية لمقارنتها بما يحصل الآن، عسى أن يأتي اليوم الذي ندرك فيه أننا كائنات ما قبل تاريخية، فلهذا الإدراك أكثر من مغزى، لأنه سيعيد تنظيم الصفوف، والاستفادة من تجارب الغير. لكن يبقى هذا الكلام لمن يرغب الدخول في حركة التاريخ قبل فوات الأوان.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

إخفاقاتنا بين التوضيح والتصحيح

العرب والكرد.. الأمور بخواتيمها