12-فبراير-2021

أضحى ارتياد المولات التجارية كعلامة بارزة لذوي النعمة (فيسبوك)

لا يوجد كائن بشري على  وجه الأرض يشذ عن هذه المعادلة: السعي نحو السعادة والابتعاد عن الألم. فلو تحول الوطن، مثلًا، إلى حال من الألم، فيغدو الوطن الآخر، "الأجنبي"، "الغريب"، هو الوطن الأم! وبدا كثير من العراقيين يعبرون عن مشاعرهم الطيبة تجاه الأوطان التي وفّرت لهم خدمات واستقرار واستمتاع بلحظات لم يتذوقوها في وطنهم الأم. إنها خدمات أجنبية بأموال عراقية تشكو من عدم الاستثمار. فالبنية التحتية المتهالكة في العراق وضعف الخدمات تشكل فائدة عظيمة للبلدان المجاورة لتنشيط أسواقها، وكسب المزيد من العملة الصعبة التي يصرفها العراقيون بكرم لا محدود! ذلك أن معظم العوائل العراقية التي تذهب لقضاء فترة  من الزمن هناك، هي من ذوي الدخل المتوسط، وهذا الأخير لا يحصل عليه المواطن التركي أو اللبناني أو الإيراني مثلما يحصل عليه المواطن العراقي، فهو يكفي للعيش بهدوء وطمأنينة في هذه البلدان. وعلى الرغم من الأموال الهائلة التي يداورها العرقيون فيما بينهم، وكثرة الأقبال على كل ما هو جديد، إلّا أنهم لم يجدوا ما وجدوه هناك في البلدان المجاورة.

يندر أن تلتقي بعراقي مالم يسرد لك انطباعاته الجميلة حول البلدان المجاورة وعن حالات الاستقرار النفسي التي يحظون بها وعن غناهم مقارنة بمواطني هذه الدول

ثمة ظاهرة مثيرة للاستغراب تضاف إلى سجل النكات غير المضحكة في العراق. إنها ظاهرة الثراء الفاحش الذي تعكسه حالة الإقبال الغريب على نوعية السيارات الفارهة والأجهزة الذكية باهظة الثمن التي تملأ شوارع بغداد بشكل عام. ولا أدري إن كانت دول المشرق والمغرب العربي، باستثناء دول الخليج، تمتلك هذا الكم الهائل من البذخ واستهلاك للأجهزة والسيارات الثمينة مقارنة بالعراقيين. ومن هذه الناحية بالتحديد، أعني من حيث القوة الشرائية والاستهلاك العالي، تصل شرائح اجتماعية في العراق إلى مستوى ملحوظ من النعمة الظاهرة، ويمكن مقارنتها ببعض الشرائح الاجتماعية لبعض الدول الغنية في هذه النقطة بالتحديد، أي من حيث قوة الاستهلاك.

اقرأ/ي أيضًا: إخفاقاتنا بين التوضيح والتصحيح

ليس هذا فحسب، فتسجّل حركة المصارف المنتشرة بكثرة في بغداد، إقبالًا شديدًا على القروض المصرفية ذات النسب الربحية العالية للغاية، وتسديد دفعات القروض المبالغ فيها، حتى أن المرء يتساءل، أي نظام اقتصادي يحكمنا؛ هل نحن رأسماليون أم اشتراكيون؟ ذلك أنه لا الرأسمالية، ولا الاشتراكية، إن وُجدت، ترتضي بمثل هذه النسب الربحية المخيفة! على أي حال، ثمّة سعار مخيف على الاستهلاك يضعنا في قلب المجتمعات ذات الاستهلاك العالي؛ فلمجرد جولة بسيطة في مولات بغداد الكثيرة، ولله الحمد، ستُفاجَأ بعدد الأسر التي ترتاد هذه المراكز التجارية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن هذه المراكز ليست أسواقًا شعبية بالطبع، بمعنى أن مستوى الأسعار ليس مُصَمّمًا لذوي الدخل المحدود. أكثر من ذلك: أضحى ارتياد هذه المراكز كعلامة بارزة لذوي النعمة، فمن غير المعقول سيكون لسَكَنَة المناطق الشعبية الوقت والمال لارتياد مثل هذه الأماكن.

كل هذا وغيره يؤشر بوضوح السيولة النقدية الضخمة التي يمتلكها العراقيون مقارنة بمواطني الدول المجاورة. ويُعد المواطن العراقي في بلدان مثل تركيا وإيران ولبنان زبون لا يمكن الاستغناء عنه نظرًا لقدرته المالية العالية وكرمه اللا محدود! فالعراقي هنا يعني المزيد من الأموال والمزيد من الربح، والأسواق الإيرانية والتركية، مثلًا خير شاهد على هذا الكلام. وفي العام الفائت، قدر خبراء ونواب في البرلمان العراقي حجم الكتلة النقدية الموجودة لدى الأهالي في منازلهم بـ"نحو 35 ترليون دينار عراقي، (ما يعادل 28 مليار دولار)".  ويعطينا هذا الأمر دلالة واضحة عن مقدار الثقة المعدومة بالمصارف العراقية، حيث يميل العراقيون إلى اكتناز أموالهم في بيوتهم. إنهم يفضلون الغير، دائما، على بلدهم!

إن العراقيين حسبوها جيدًا: الاستمتاع بالخدمات، والإقبال الشديد على البضائع الاستهلاكية، والاصطياف في الأماكن الجميلة، بأقل كلفة ممكنة مقارنة ببلدهم العراق. فلو قارنا، على سبيل المثال، عائلة عراقية تتكون من أربعة أفراد معدل دخلها الشهري 1000 دولار بعائلة عراقية مماثلة أخرى تصطاف في أحد الدول المجاورة،  لوجدنا أن الأولى تستهلك دخلها الشهري بمزيد من عدم الاستقرار وانعدام الخدمات في بنية تحتية متهالكة، بينما نجد الثانية تستمتع بكامل الخدمات وبمزيد من الاستقرار وتستهلك معدل نصف ما تستهلكه الأولى. ولذلك يندر أن تلتقي بعراقي مالم يسرد لك انطباعاته الجميلة حول البلدان المجاورة وعن حالات الاستقرار النفسي التي يحظون بها وعن غناهم مقارنة بمواطني هذه الدول.

لكن.. كل هذا يجري وسط جهنم؛ ضعف الخدمات والأمن، وهدر للمال العام، وضعف الاستثمار، والفساد الإداري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي. كل هذا وغيره دفع العرقيين للبحث عن فردوسهم المفقود. فهذا الخير ليس في الوسط أو الجنوب؛ إنه في الشمال، بنسبة معقولة، وفي الدول المجاور التي تتسابق على جعل العراق أكبر سوق استهلاكية لها، ولم تحظَ بهذه الفرصة طوال تاريخها، بينما تتجاهل سلطة الخضراء كل ذلك بكل ما تعنيه راحة البال وطيب الخاطر.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

متسولون في بلد الحضارات

ترياق الكتابة