25-يناير-2021

أينما تذهب ستواجه هذه الظاهرة القاصمة للظهر (فيسبوك)

كل يوم يقطع علي سلسلة أفكاري ثلاثة أطفال متسولين على التعاقب، ومن بينهم بنت مميزة بعذوبة اللسان! وفي الحقيقة لقد أدمن العراقيون الصيغ والمحفوظات الدرامية التي يتمتع بها الكثير من المتسولين (صغيرهم وكبيرهم). أصادف يوميًا ذات الوجوه وذات النبرات المُتَكلّفة، وهي تكرر محفوظاتها اليومية. إن العراقيين، وبالرغم من الكرم الذي يعد من شمائلهم الأصيلة، إلا أنهم فقدوا القدرة على التعاطف مع هؤلاء المتسولين، ولم تعد المشاهد الدرامية تتمتع بنفس الإثارة في سنوات التأسيس الأولى! أعني انفجار ظاهرة التسول بشكل مضاعف ما بعد التغيير.

لمجرد أن يتجول المرء في شوارع بغداد وأزقتها سيكتشف الأعداد المهولة لجيوش المتسولين من الجنسين

وبالطبع ليس المقصود من أن ظاهرة التسول ترافقت مع  التغيير السياسي، بل المقصود أن أعداد المتسولين محددة ومعروفة إلى حد ما في السابق. وبالخصوص أيام الحصار الجائر على الشعب العراقي. أما اليوم فلا نكاد نفرّق بين العدو والصديق، بين الفقير الحقيقي والعامل المأجور! ولمجرد أن يتجول أحدنا في شوارع بغداد وأزقتها فسيكتشف الأعداد المهولة لجيوش المتسولين من الجنسين، ويكاد العنصر النسائي يتفوق من حيث العدد والأساليب المتقنة.. حتى إني صادفت امرأة أكثر من مرة تكرر ذات الأسطوانة المشروخة. ويبدو أنها من الجيل القديم، لأنها لم تضف شيئًا من الأساليب المتقنة والجديدة. لذلك، شاهدت عراكها المستمر مع المتسولين الأطفال لأنهم يتعدون على مكانها المعتاد و"زبائنها" المعتادين.

اقرأ/ي أيضًا: الاتجار بالبشر في العراق.. تورّط مسؤولين في الدعارة وسرقة الأعضاء

أينما تذهب ستواجه هذه الظاهرة القاصمة للظهر؛ في المطاعم، وعيادات الأطباء، و المقاهي، والأسواق، والمحال التجارية. وإن سهّل الله على هذه الجموع المتسولة فقد نراها في قاعة البرلمان. لكن سيكون على المتسولين هذه المرة أن يستبدلوا كل الصيغ، القديمة منها والحديثة، ذلك أن الغالبية العظمى من النواب الحاليين كانوا من أصول فقيرة، والبعض منهم كان من الطبقات المعدمة. معنى هذا أنهم خبروا كل دروب النصب والاحتيال واللعب على الحبلين؛ ففي  المناطق الفقيرة، وفي الأخص قاطع الرصافة، تكثر فيه مشاهد الفقر المفزعة والحقيقية، وليس ظواهر قد تكون مصطنعة. نقول "مصطنعة" لأنها تعيد إنتاج نفسها بشكل يومي ومتكرر. وشخصيًا أصادف الكثير من ذوي القامات الفارعة والصحة الجيدة اتخذوا من التسول حرفة تدر الربح السريع.

على أي حال، وفي سياق ذكر البرلمانيين، الذين ينحدرون من أصول فقيرة بالذات، ماذا تعني لهم مؤسسات الدولة، ماذا تعني لهم المؤسسات القانونية والاجتماعية ذات الشأن، وماذا تعني لهم الحياة الكريمة، خصوصًا أنهم جربوا أسوأ أنواع الفقر والحرمان. والمغزى من هذا السؤال الممل والمكرر، هو البحث عن جواب شافً عن معضلتنا البنيوية: السلطة التي تتربع على عرش الترف والمحسوبيات من جهة، وفئات واسعة من الشعب العراقي يفترسها الفقر من جهة أخرى. ثم يتساءل المرء: ما معنى أن يصنف العراق كبلد نفطي وثري؟ لا يمتلك الجواب المقنع سوى السلطة السياسية الحاكمة.

والمصيبة الأكبر، إننا نقف عاجزين حتى عن مساءلة المتسول المدعي، ونقف عاجزين عن حماية أطفالنا من ظاهرة التسول، لأنهم سيختلقون مئات الأعذار لهذه الظاهرة المشينة. فعلى الأقل نحن مطمئنون على أن الغالبية العظمى منهم قد لا يمتلكون السكن والعمل الملائم الذي يضمن لهم حياة كريمة. ويبدو أن الإشكالية الكبرى لدى السياسي العراقي هي المخاطر السياسية وليست الاجتماعية، وهو يفصل فصلًا حادًا بين الاثنين. بمعنى أن السياسي العراقي قد يتوهم أنه ثمة فارق بين المخاطر السياسية والمخاطر الاجتماعية، وبما أنه في مأمن من المخاطر الأولى فسيدير ظهره للمخاطر الثانية. على سبيل المثال: كان صدام حسين وحاشيته يتنكرون لأبشع أنواع الحرمان، يوم شنت الولايات المتحدة حصارها اللا أخلاقي على الشعب العراقي. وبما أن صدام كان بمأمن هو وحاشيته من معاناة الحصار، فلم يكن مهتمًا عل الإطلاق بما يأكله العراقيون أيام الحصار السوداء.

كانت هناك علاقة طردية في سنين الحصار الصعبة؛ كلما ازداد العراقيون جوعًا، وكلما تصاعدت ظاهرة التفسخ الاجتماعي، كان عدد بناء القصور في تصاعد مستمر. ويكفي لصدام حسين آنذاك أن يعلن ملكية هذه القصور للشعب العراقي بكل صلف وحماقة. وبما أنه لم يبدي أي اهتمام لعذابات الشعب العراقي، وكان يتوهم الاستقرار السياسي، فقد جاء أمر القوى المهيمنة وشيكًا وصادمًا، حتى من أغناهم صدام حسين بثروة النفط تنكروا له كليًا. ببساطة شديدة: لأنه لم يقم وزنًا للمخاطر الاجتماعية الكبرى التي قوضت سلطة مفترسة كانت تحكم العراقيين عدة عقود بالحديد والنار، فانقلب الأمر وبالًا عليه في نهاية المطاف. فهل من معتبر؟ 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

"مطلوب كلية للجادين".. تجارة علنية بالأعضاء البشرية

عبر 15 شبكة.. استعباد للبشر ببغداد وتجارة جنس في كردستان والجنوب