05-فبراير-2021

يكتب الإنسان هنا للانعتاق من سجن الراهن العراقي (فيسبوك)

"نحن مجرّد مراسلين لمن لم يولدوا بعدُ. وبهذا المعنى تحديدًا، يجدر بنا أن نقرأ رسائل السابقين على العصور الحديثة، من أبيقور إلى القدّيس بولس، ومن أغسطينوس إلى المعرّي، - بوصفها لم تُكتب لأهل ذلك الزمان، بل هي مشفّرة من أجل قرّاء المستقبل؟". فتحي المسكيني- سردية المؤمن الحزين.

بين اليوم والليلة تمطر سماء العراق مئات النصوص المختلفة. وسواء كانت هذه النصوص ذات طابع فكري خالص أو مكتوبة للاعتياش، فهي لا تخرج من هذه الحقيقة: الحلم بمستقبل أفضل. وأيًّا كان مستوى جودتها وجديتها فهي لا تخرج عن هذا المضمون، إلا من حيث تفاضلها نوعيًا. أعني من حيث جودة المضمون وعمق الهموم التي ينفثها الكاتب. غير أنها تتضامن في هذا المشترك الذي ذكرناه توًا. وكلما كانت عصارتها مليئة بالهم الأقصى فهي تحاكي شيئًا ما لم يولد بعد؛ شيء يدّخره المستقبل، فيحاول الكاتب أن يستدعيه، ويستنطقه. إنه كائن مستقبلي تبدو ملامحه مألوفه، لكن ما يجعله غائبًا أو لم يولد بعد هو غياب الإمكانيات اللازمة لتحقيقه. إنه فقير من حيث الإمكان، ومعدوم من حيث هو كائن عياني يتجلى في الراهن، اللهم إلا من حيث تجليه في الذهن.

إننا نكتب لكي يتحول الراهن بأسره إلى ترياق، إلى حالة من حالات البقاء على قيد الحياة

ولكل راهن أعطابه وعلله بكل تأكيد، والراهن العراقي تستفحل فيه الأعطاب لدرجة أن كل النصوص التي تكتب فيه لأجل مهمة قصوى وحرجة للغاية، وهي محاولة الاستشفاء من هذا الراهن المعقد والخطير، لدرجة أنه لا حلول يمكن أن تنفذ إليه سوى اتخاذ الكتابة ترياق وسلوة عزاء، ذلك أن كل ما يكتب يجابه بالعدائية والنفور من هذا الراهن العنيد. لكن ثمّة شيء ما يدفع بأقصى إمكانياته لاستخراج الكتابة كفعل مقاومة نقية وشريفة تدفع صاحبها للبقاء على قيد الحياة!

اقرأ/ي أيضًا: في النبذ الاجتماعي

وبالرغم من أن مجمل ما نكتبه لا يبلغ مستوى الإبداع والتأسيس، إلا أنه لا يخسر رهانه كبلسم وعلاج من الأعطاب اليومية التي نكابدها بفعل الدمار السياسي الذي لحق بالعراق. إن الكتابة في هذا البلد اللغز تشبه إلى حد بعيد العلاج بالكي! هذا في مستوياتها القصوى، أما ما دون ذلك فهي تذكير مستمر بأن ثمة شيء ما في المستقبل على وشك الظهور. وإلا بماذا نفسر تلك الكتابات الحالمة بمجتمع مواطني يتذوق الكرامة البشرية في العراق! أليست هذه الكتابات ترياق شديد التركيز من هذا الراهن العصي على الفهم؟! ألا يعني ثمة بشارة أمل بعيدة المنال في اللحظة الراهنة تقع في أقصى نقطة خفية في المستقبل؟ ألا تعني ما تعنيه أنها تكافح من أجل استحضار الحد الأدنى من تنفس الحياة؟! إن لم تكن هذه الأسئلة تفسيرًا لما يُكتب حاليًا، فمن دون شك أن معظم هذه الكتابات "الحالمة" محض جنون وتجديف!

دائمًا ما تقف الأجيال الجديدة على عتبة واسعة من الإمكانات خلقتها أجيال سابقة من الكتاب والمبدعين. ولا يتوقف الأمر على النصوص الكبرى التي حاولت استنطاق الكينونة، بل حتى تلك النصوص الرديئة والمغامرة، مثلنا بالضبط، تحمل في طايتها شهادة بالغة القسوة عن رداءة ذلك الحاضر الذي دونت جزء منه بعض الأقلام الرديئة، فكانت شاهدة على كل هذا القبح الذي لا يحتمل في كثير من الأحيان. لكن عذرنا، نحن المتعلمين على سبيل نجاة، هو الكتابة، كحالة رجاء، لتوسل هذا الذي لم يولد بعد أن يظهر نفسه على شكل أمل أو علامة مريحة تحمل بشائر الخير في المستقبل القادم. بمعنى، حينما نكتب لا نرتقي إلى مصاف هؤلاء الذين أعياهم الجري للقبض على الكينونة. إننا نكتب لكي يتحول الراهن بأسره إلى ترياق، إلى حالة من حالات البقاء على قيد الحياة. جرّب أن تسأل من يكتب وعن جدوى ما يكتب، ربما سيأتي الجواب سريعًا: أكتب للانعتاق من سجن الراهن العراقي، هذا الراهن الذي أطبق عليّ لدرجة إني أتوسل ذلك الذي لم يولد بعد، لذلك أكتب!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الحرية بين الحقيقة والادّعاء

رهاب وتبرير وموت مُنَظَّم