23-يناير-2021

تمت تصفية الكثير على مر التاريخ بمفردة النبذ (فيسبوك)

"ألا فلا يغفر الله له أبدًا ألا فليلفّه غضب الرب وسخطه ولتتأجّج نارهما على رأسه إلى الأبد. ألا فلتحل جميع اللعنات المحتواة في كتاب الناموس. ألا فليمحه الله من كتابه وليبعده من عند هلاكه عن جميع أسباط إسرائيل وليجعل كلأه من كل اللعنات المبان عنها في كتاب الشريعة". قرار السلطة الحاخامية بحق الفيلسوف سبينوزا. أميل برهييه، تاريخ الفلسفة في القرن السابع عشر.

فقال سقراط: "سوف أحتقر نفسي يا كريتو إن أنا تعلَّقت ببضع لحظات إضافية. هات، أعطني السم، ثم رفع الكأس بهدوء وتجرَّع منه". محاكمة سقراط.

ينبغي ألا نحلم أكثر من الحدود المتاحة في ثقافتنا. فحتى الأحلام تستدعي منّا تجهيز البنى التحتية الكاملة للحلم. بمعنى أن الأحلام المنتجة تصاحبها أدوات ماهرة لكي تتحقق. وبخلاف ذلك علينا أن نستيقظ! إن الجبرية الاجتماعية التي تهمين على طرق تفكير وسلوك شعوبنا تتعامل مع مجمل الأحلام المشروعة على أنها تهديد. فعلى سبيل المثال: لو حلمنا بمجتمع خالٍ من النعرات العشائرية سيغدو هذا الحلم "شروع بالقتل العمَد" لقدس أقداسنا الثقافية! ولا حاجة للتذكير أن أي محاولة لتشريع قانون من هذا النوع ستكون نهايته الفشل المحقق. والجواب ببساطة شديدة، لأن هذا التشريع "الحالم" يعتبر تهديدًا سافرًا لمنظومة القيم الثقافية، ذلك أن العشيرة مكون تاريخي أصيل لبنيتنا الثقافية. وبالطبع أن من يعتبر هذا التشريع تهديدًا يتعمد الخلط بين العشيرة كتشكيل ثقافي أصيل، وبين سلوكياتها التي تتعارض مع أسس الدولة الحديثة. و"الحالمون" عادة يبتغون من وراء هذا التشريع الحد من هذه السلطة التي تتعارض مع سلطة الدولة. لكن هذا التطمين لا يكفي؛ فلمجرد الشروع بالحلم من خارج المنظومة الثقافية فسيعد مشكلة اجتماعية كبيرة، وستترتب عليه مقاومة عنيفة من قبل المجتمع المحافظ.

لدينا جماعات في العراق تتآمر على نفسها في كل مرة، وتمارس عملية النبذ المتبادل وتتعدى على أحلامها بنفسها

لا تتوقف المقاومة عند هذه العتبة فحسب، بل تتعداها إلى كل ما ينغّص عليها سكينتها؛ فالعابرون لأسوار الشروط الاجتماعية القائمة سيحكم عليهم بالنبذ الاجتماعي إلى الأبد ما لم يرجعوا ويعلنوا توبتهم. والتوبة هنا ليست بالضرورة أن تكون بالطرق المعهودة، بل تكفي أن تكون على شكل تجريد الفرد من كل أحلامه الجامحة، ويعلن تماثله التام مع المجتمع، وإلا سيبقى منبوذًا، وينظر إليه كجسم غريب ونقطة استشعار للخطر الوشيك. وقد يتساءل أحدنا؛ وما الضير أن يغدو الإنسان منبوذًا في مجتمع حكم على نفسه بالجهل والانغلاق من خلال التواطؤ مع سلطته السياسية؟ في كتابه المهم "ما وراء الأوهام" يتساءل أيريك فروم عن الكثير من الأشخاص الذين يخشون من معارضة مع السائد حتى في أكثر المجتمعات انفتاحًا، أهو الخوف؟ كلا، لأن هامش الحرية الذي يحظى به الفرد هناك يمنحه تطمينات كبيرة لدرجة أنه لا يخاف من إبداء رأي مختلف. المهم في الأمر، وفي خلاصة استنتاجه يصل هذا المفكر الفذ إلى نتيجة غريبة، وهي أن المانع الأساس هو الخوف من النبذّ.

اقرأ/ي أيضًا: عن التراث والاستبداد

إذا أردت أن تحكم على فرد ما بالتعذيب المستمر فما عليك سوى أشعاره بين الحين والآخر بأنه منبوذ. ولا يتوقف الأمر على الصياغة الشكلية لهذه المفردة القاسية، وإنما ما سيلحقها من تبعات اجتماعية هي الأقسى والأمرّ. فقد تمت تصفية الكثير على مر التاريخ بهذه المفردة ذات السحر المؤثر على الجمهور. إن السم الزعاف الذي سيتجرعه الحالمون هو سم النبذ الاجتماعي الذي لا ينفع معه ترياق سوى الاعتراف بأن كل الذوات متشابهة، وأن السلطة المستبدة قد خلقتنا على صورتها، وأننا لسنا مختلفين بل متشابهون كما التوائم السيامية! هذا الاعتراف وحده من سيشفع لنا أن نبقى على قيد الحياة. لذلك أحسب سقراط أنه تجرع السم بملء إرادته لكيلا يغدو شبيهًا ونظيرًا لأزلام السلطة الفاسدة، ولذلك قرر بكل رباطة جأش أن يتجرّع السم الزعاف؛ فالترياق الوحيد للأحرار هو أن يبقى صدى أصواتهم ممتد، كما الأبدية، وشاهد على أن الحياة ليست تكرارًا بقدر ماهي اختلاف، أنها ليست هويات مُعدة سلفًا بقدر ماهي انفتاح، أنها ليست بركة ساكنة بقدر ما هي نهر متدفق.

 إلا أننا، وفي العراق خصوصًا، نعاني من نبذ شديد القسوة، يتمثل في هذا المشهد: ليس لدينا سقراط وسبينوزا لكي يتم نبذهم، بقدر ما لدينا جماعات تتآمر على نفسها في كل مرة، وتمارس عملية النبذ المتبادل وتتعدى على أحلامها بنفسها، وهذا ضمان أضافي نمنحه لسلطة الاستبداد لكي تمعن في تحطيم أسوار الحلم العراقي؛ وهذا الأخير يتمثل على شكل دولة مواطنة يحلم فيها الجميع بلا حاجب أو بوّاب. هل أنا أحلم؟ نعم!

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

رهاب وتبرير وموت مُنَظَّم

الحرية بين الحقيقة والادّعاء