21-يناير-2021

لا زال "الشيخ" و "القائد" هو الماضي والحاضر والمستقبل (فيسبوك)

في كل مرة يسعى فيها الفرد العربي عمومًا والعراقي على وجه الخصوص، من اجتراح الحداثة كمكون أصيل في ثقافته سرعان ما تتهاوى صروحه، كما لو أنه سقط دفعة واحدة من ناطحة سحاب على رأسه. ولم يسلم من هذه "القفزة" سوى الشعر والأشكال التحديثية لأزيائنا وشوارعنا! في حين ظلت البنية العميقة للتفكير مسمّرة في مكانها ولم تراوحه منذ أن دشن الغرب اللحظة الأولى لتاريخ الحداثة. وعلى هذا المنوال، أضحى العربي باحثًا عمّا يعوّض عن هذه الصدمة المريعة. ولكي لا يفقد نقاطه المرجعية انتكس بشكل حاد نحو التراث، وأضحى هذا الأخير هويته الصلبة، يستقي منها مقولاته، ونظرته للحياة، وفهمه للواقع.

لا نستغرب من المحاولات النقدية التي تنتهي في زوايا النسيان، لأنها لا تجد أذنًا صاغية من سلطة الاستبداد

 لذا لا نستغرب من تشبث الجماهير، ومن يحركهم، بمقولات التراث، وجعله المعيار الأوحد لسلوكنا السياسي! ولا نستغرب من الانتصار المستمر للسلطة السياسية المتضخمة على حساب الدولة العصرية ومؤسساتها، فمراجعة الذات فعل شاق، يستدعي في كثير من الأحيان التنازل عن أهم المكتسبات التي حازت عليها، ولا زالت، السلطة السياسية العربية. كما لا نستغرب من المحاولات النقدية التي تنتهي في زوايا النسيان، لأنها لا تجد أذنًا صاغية من سلطة الاستبداد.

اقرأ/ي أيضًا: إرث الاستبداد الثقيل

 يسجل المفكر العربي محمد عابد الجابري في كتابه "نحن والتراث" نقاطًا مهمة عن معضلتنا التراثية هذه، وسنورد بعض ما ذكره هذا المفكر، لتسليط الضوء على أهم مرتكزات التفكير والسلوك التي ينطلق منها العربي لفهم واقعه الملتبس، وهي كالتالي:

  • إن القراءة السلفية للتراث هي قراءة سلفية لا تاريخية، وبالتالي هي لا تنتج سوى نوع واحد لفهم التراث هو: الفهم التراثي للتراث. التراث يحتويها وهي لا تستطيع أن تحتويه: لأنها الفهم التراثي للتراث.
  • ينظر الليبرالي العربي إلى التراث العربي الإسلامي من الحاضر الذي يحياه، حاضر الغرب الأوروبي، فيقرأه قراءة أوروباوية النزعة، أي ينظر إليه من منظومة مرجعية أوربية، ولذلك هو لا يرى فيه إلا ما يراه الأوربي.
  • إن الفكر العربي اليساري لا يتبنى المنهج الجدلي كمنهج لـ"التطبيق" بل يتبناه كمنهج "مطبق". وهكذا فالتراث العربي الإسلامي "يجب" أن يكون انعكاسًا للصراع الطبقي من جهة، وميدانًا للصراع بين "المادية" و"المثالية من جهة أخرى".
  • إن العقل العربي بنية ساهمت في تشكيلها عناصر متعددة وعلى رأسها "أسلوب الممارسة النظرية" (النحوية والفقهية والكلامية) التي سادت في عصر الانحطاط، الأسلوب الذي قوامه قياس الغائب على الشاهد بدون مراعاة الشروط التي تجعل هذا القياس منهجًا علميًا.
  • لقد أصبح "القياس" في شكله الميكانيكي ذاك، العنصر اللا متغير(الثابت) في نشاط بنية العقل العربي، العنصر الذي يجمد الزمان ويلغي التطور ويجعل الماضي حاضرًا باستمرار في الفكر والوجدان ليمد الحاضر بـ"الحلول" الجاهزة".
  • القارئ العربي مؤطر بتراثه، بمعنى أن التراث يحتويه احتواء يفقد استقلاله وحريته. لقد تلقى القارئ العربي، ويتلقى، تراثه منذ ميلاده ككلمات ومفاهيم، كلغة تفكي، كحكايات وخرافات وخيال، كطريقة في التعامل مع الأشياء، كأسلوب في التفكير، كمعارف وحقائق.. فعندما يقرأ القارئ العربي نصًا من نصوص تراثه يقرأ متذكرًا لا مكتشفًا ولا مستفهمًا.

ويظهر من ذلك؛ إن عملية "التفكير" في مناخنا العربي شبيهة بنظرية الاستذكار الأفلاطونية؛ كل شيء جاهز ومرتب على شكل كليات، وما على العقل سوى استذكارها. إن التفكير بهذه الطريقة يغدو عملية ربط الجزئيات بكلياتها، غير أن الكليات هنا هي التراث بغثه وسمينه، بنصوصه الجاهزة، بمقولاته المذهبية، بعد أن تحولت من موضوعات للاجتهاد إلى مقولات جاهزة ما على "العقل المفكر" سوى استعادتها بصيغ تعبيرية مختلفة، لكنها تحمل ذات البنية، ولا يشذ مكون من مكوناتها عن عملية الاجترار والتكرار.

يطرح الباحث الألماني روبرت تسيمر في كتابه "في صحبة الفلاسفة" سؤالًا في منتهى الأهمية، مفاده: لماذا لم يتقدم العرب المسلمون حين كانت لديهم كل أسباب التفوق على الغرب؟ ينتهي هذا الباحث إلى إجابة ذات مغزى، وهي أن العرب المسلمين كانت تنقصهم المؤسسة، وأن النقطة المفصلية في التاريخ الغربي، والتي تقدم الغرب من خلالها، هي المؤسسة. وواقع الأمور يجري، بشكل كبير، مع الإجابة التي طرحها هذا الباحث. إذ لا زال "الشيخ"، "القائد"، "السلطان"، "الملك"، هو الماضي والحاضر والمستقبل! وهو من يحدد كيفية النظر للتراث: هل نبقى غارقين، بلا مراجعة نقدية، أم نبقي الأمور على نصابها؟ وفي كل مرة تنتصر قيم السلطة السياسية العربية للشق الثاني من السؤال، فإذا عرف السبب بطل العجب.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

سبعة قرون من الاستبداد

لماذا لا نتغيّر؟

دلالات: