25-فبراير-2022

لوحة القبلة لغوستاف كليمت

طعم القُبْلَة

من المعروف لدى بعضنا أن الضوء والظلام لا يوجدان في الواقع، لأنّهما انطباعان يخلقهما الوعي البشري نتيجة تحسس العين للضوء، الذي هو طيف محدّد من الموجات الكهرومغناطيسية. وهذا يعني بأن الواقع من حولنا ليس مضيئًا ولا مظلمًا. وهو بالتأكيد من دون طعم أو رائحة، فطعم رغيف الخبز غير حقيقي، وما نتذوقه لحظة تناول الرغيف عبارة عن تأثر حاسة الذوق عندنا بجزء من تركيبته الكيميائية. والمثال الأكثر وضوحًا في قدرات وعينا على خلق الانطباعات، هو أن للقُبْلَة طعوم ـ تأثيرات - مختلفة، فطعم القُبْلة على خد الصغير لا يشبه طعمها على خد الكبير، كما أن "طعم" خد المرأة الواحدة سيختلف بين قُبْلَتين واحدة للابن والأخرى للزوج. لكن هل هناك "طعم" واقعي للقُبْلة؟

لا بد لنا من الاختيار بين أن يكون وعي الحيوانات مخلوق ليعرف الواقع أو أن وعينا مخلوق ليضمن لنا فرص أكبر في البقاء داخل الواقع وليس معرفته

في تقييمنا للمعرفة البشرية يجب أن نتوقف عند هذه المعطيات. فما دامنا نعرف أن لون وطعم ورائحة النباتات صفات ليست حقيقية فيها، وأن وعينا يترجم انعكاس الضوء على النبات بأنه لون، ويترجم جزءًا من تركيبته الكيميائية على أنها طعم وجزءًا آخر على أنه رائحة، فهل يصح بعد ذلك أن نقول بأننا نعرف النباتات؟ مع ملاحظة أن حاسَّة التذوق التي تتحسس التركيبة الكيمائية لا تخبرنا عن تفاصيل هذه التركيبة أو نسب مكوناتها من العناصر كالحديد أو الرصاص أو النحاس، هي فقط تخلُق لدينا انطباعًا يجعلنا نفصل بين ما يصلح للأكل من النباتات وما لا يصلح. وهذا ما يفعله وعي الحيوانات عمومًا، فهي ترى الألوان وتميز الطعوم والروائح، فهل نعتبر أن تحقيقها لهذا المستوى من الإدراك يجعلها عارفة بالمحيط؟ أظن أن الأعم الأغلب من المعنيين بالإجابة على هذا السؤال يجيبون بالنفي، يقولون بأن الوعي الحيواني لا يُحقّق المعرفة، انطلاقًا من المقارنة بين الأجهزة الإدراكية لدى مختلف الحيوانات وبين جهازنا الإدراكي ومن ثمَّ غزارة ودقة المعرفة التي يتيحها لنا هذا الجهاز. لكن هل أن الدقة والغزارة ناشئتان من اختلاف في نوع المعلومات أم في كمّيتها؟

اقرأ/ي أيضًا: الرؤية الأنثروبولوجية للإصلاح المؤسسي

في الحقيقة لا أجد أن حواسنا تختلف عن حواس الحيوانات لدرجة تتيج لنا أن نجمع أنواعًا من المعلومات لا يتاح للحيوانات جمعها. فكل الحيوانات بضمنها البشر تستعمل الحواس نفسها وبالتالي تجمع أنواعًا متشابهة من المعلومات عن المحيط، لكن يتميز الوعي البشري بأن لديه ذاكرة أكثر مرونة واستيعابًا، تمكنه من تجميع معلومات أكثر، ما يجعله قادرًا على إجراء عمليات هائلة من التصنيف والتبويب والمقارنة ومن ثم الاستنتاج.

إذًا، الفرق بين إدراكنا للواقع وبين إدراك الحيوانات له، تحدث بسبب تطور قدرتنا على تبويب المعلومات وليس تطور قدتنا على جمع معلومات أكثر تفصيلاً عن الواقع، والفرق كبير بين أن تتطور حواسنا بحيث تجمع بيانات عن الواقع تكون أكثر دقَّة وعمقًا مما تجمعه حواس بقيّة الحيوانات، وبين أن تكون لحواسنا قدرات حواس الحيوانات نفسها لكن تتطور قدرتنا على استثمار البيانات بدقة وتعقيد أكثر. فهذا الفرق يعني بأن وعي جميع الحيوانات بضمنها البشر مجهز بنفس أدوات تحسس الواقع ما يعني بأنه مخلوق لتحقيق نفس الغاية والغرض. ولا يمكن أن نقول بعدها أن وعينا مخلوق لتحقيق المعرفة فضلاً عن ضمان فرص البقاء، ووعي الحيوانات مخلوق لضمان فرص البقاء فقط.

الأمر يشبه لو أن لدينا كامرتان لهما نفس دقة التصوير، الأولى بذاكرة صغيرة بحيث لا تستطيع أن تحتفظ بكم هائل من الصور مما يضطر مستعملها إلى حذف أغلب الصور في ظرف أسبوع مثلاً، والاحتفاظ ببعض الصور الضرورية. والثانية بذاكرة كبيرة جدًا بحيث تتيح لمن يستعملها الاحتفاظ بالصور التي يلتقطها لعشرات السنوات. مستعمل الكامرة الثانية سيتمكن من مقارنة الصور عبر السنوات ومعرفة التغيرات التي تحدث في الواقع بدقة وتركيز أكبر من مستعمل الكامرة الأولى، لكن هل هناك أشياء يستطيع أن يُصورها مستعمل الكامرة الثانية ولا يستطيع أن يصورها مستعمل الأولى؟ لا طبعًا. ما يعني أن كلاهما سيعرفان تفاصيل الواقع نفسها، وبما أن كلا الكامرتين لا تتحسسان الروائح ولا الأصوات ولا درجات الحرارة ولا الضغط الجوي ولا سرعة الرياح واتجاهها ولا تصوران الكائنات المجهرية. إذا فما لن يعرفه مستعمل الكاميرا الأولى لن يعرفه مستعمل الكاميرا الثانية، وكلاهما سيجهلان الكثير من تفاصيل ما حولهما. وعلى هذا الأساس هل نقول بأن الكاميرا الثانية صُنعت لتجمع بيانات لا تستطيع جمعها الأولى؟ لا طبعًا هي فقط تحتفظ بالبيانات نفسها لفترة أطول.

في النهاية لا بد لنا من الاختيار بين أن يكون وعي الحيوانات مخلوق ليعرف الواقع أو أن وعينا مخلوق ليضمن لنا فرص أكبر في البقاء داخل الواقع وليس معرفته. أما المعرفة التي تجمّعت عندنا كبشر والتي يبدو عليها أنها فائضة عن حاجتنا للبقاء، فأما أن تكون فعلاً فائضة عن حاجتنا للبقاء لكنها حدثت بشكل عرضي، أو أنها معرفة واقعة في سياق دعم فرصنا بالبقاء. وهذا ما ساحاول مناقشته في مقال لاحق.

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

العقل الإيماني الكسول

عُتاة قريش المُبجّلون دائمًا

دلالات: