30-مايو-2022

ضرب الصدر ثلاثة عصافير بحجر واحد (فيسبوك)

لكي نكتشف المساحات الرمادية في ظل وضعنا السياسي المُلتبس، لا توجد عِدّة فكرية، كما أزعم، أفضل من السؤال، شريطة أن يكون ذلك السؤال مٌعَدًّا بعناية، وبعيدًا عن الأهواء النفسية، ليساهم في توسيع مساحة الاحتمالات والإمكانات، وأول سؤال سيداهمنا كما يبدو، هو ما الأسباب القاهرة التي دفعت بالمشرّع البرلماني للانتفاض لتشريع قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني، وجعله من الأولويات، بحيث شهد البرلمان حركة شبه احتفالية بعد إقرار القانون، وهتف النوّاب بالصلوات وهم تغمرهم السعادة لهذا الإنجاز؟

مهما كانت المقاصد والأهداف لكن لا يعني ذلك التشكيك بأصل قانون تجريم التطبيع خصوصًا أنه ينسجم مع الثقافة السياسية التي درج عليها العراقيون منذ احتلال فلسطين

وبالمقارنة مع وضعنا السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي المزري، قفز هذا القانون ليحتلّ الأولوية من بين كل المشاريع المتلكئة، والتي يبدو على القوى السياسية أنها غير عازمة على إحداث أي فارق يُذكر، بحيث أن الكثير من العراقيين، غير المنتمين إلى فصيل سياسي، استقبلوا هذا القانون بفتور، وفئات أخرى استقبلته بازدراء وتهكم، ومعظم هذه ردود الأفعال هذه لم تتعدَ حدود مواقع التواصل، أما الواقع الفعلي فترتبط فعاليته السياسية بالقوى المهيمنة فقط.

ولا نعرّج على الفئة الثالثة، وأعني بهم الخصوم السياسيين، فلا نأخذ اعتراضاتهم على محمل الجد، فهي تندرج في عداد المناكفات السياسية، إذ لو كانوا هم المبادرون لهذا المشروع لكان الأمر مختلفًا.

المهم في الأمر، وبالعودة إلى السؤال أعلاه؛ ما الأسباب التي دفعت النائب العراقي لتشريع هذا القانون؟ في الحقيقة لم يكن المشرّع البرلماني صاحب المبادرة الأولى، وإنما كانت خطوة محفّزة من زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، لكي يكون، كما سنبيّن بعد سطور، بمأمن من مشاكسة الخصوم، وسيعرَضهم لإحراج شديد لو فكروا بمخالفته.

ليس هذا فحسب، بل لا يحتمل الأمر سياسات اللف والدوران، والمماطلة والتسويف، مثلما يحدث لأهم إشكالية في وضعنا السياسي وهي تشكيل الحكومة. فالقضية الفلسطينية في "ضمير" السياسي العراقي أكثر أهمية من مؤسسات دولة لا زالت تحتضر قرابة العقدين.

 لذلك بادر الخصوم بالتصويت على هذا القرار الذي، حتى وإن لم نشكك بنواياه الطيبة ودوافعه العقائدية، لا يخلو من دوافع سياسية تترتب عليها عدِّة فوائدَ وآثار أستطاع من خلالها مقتدى الصدر الإفلات من شبهات الخصوم.

لطالما التصقت تهمة الولاء للصهيونية بالقوى السياسية الكردية، وازدادت حدّة الاتهامات، بل برزت بشكل لافت، بعد التحالف السياسي الجديد الذي جمع الكرد مع الصدريين والقوى السياسية السنية، ومثلما حملت دعوة السيد الصدر دوافعها السياسية، لم تخلُ دوافع الخصوم من الأثر السياسي فحسب، بل تندرج في عداد الحرب النفسية ومحاولة خلخلة التحالف الثلاثي، فكما هو معلوم حين يصل الأمر إلى تهمة التآمر مع الصهيونية فسيغدو كل شيءٍ مباحًا، ويسقط في الهاوية أكبر الرموز شعبيةً.

إذًا، استطاع مقتدى الصدر ضرب ثلاثة عصافير في حجر واحد، وهي:

  • أولًا: ضربة استباقية للخصوم دفع من خلالها التهمة الأكثر خطورة في ثقافتنا السياسية (الصهيونية)، ومن الطريف أن الكرد أول من درء هذه الشبهة عبر التصويت على هذا القانون.

  •  ثانيًا: بث الحيوية من جديد في الشارع السياسي وبالأخص أنصار التيار الصدري ليتحول إقرار المشروع إلى نصر عقائدي ينسجم مع البنية النفسية لأنصار هذا التيار.

  •  ثالثًا: الاستفادة من ردود الأفعال المتشنجة التي تطالب بالاهتمام بالقوانين التي تمس واقعهم الحياتي، فهم أولى بالإجماع على تشريع قوانين تحظى بالإجماع، وأكثر أهمية ألّا تخضع مصالحهم الحيوية للمزايدات السياسية. وعسى ولعل أن تتحول ردود الأفعال هذه إلى أداة ضغط سياسي تُستَثمَر لصالح الأغلبية السياسية.

 أيًا كان الأمر، حقق الصدر بهذه المبادرة نصرًا سياسيًا، وسجل نقطة مهمة في سجل الخصومات السياسية، وحقق الفوائد الثلاثة المذكورة، فبالتالي حصّن سجله السياسي من شبهة بإمكانها أن تطيح بكل جهود هذا التحالف، وجاءت في لحظة سياسية مهمة لا تخلو من ذكاء.

علينا أن نكرر مرة أخرى، أنه مهما كانت المقاصد والأهداف، وطبيعة المرحلة وظرفها الراهن، ومقدار المكاسب السياسية، لكن لا يعني ذلك التشكيك بأصل القانون، خصوصًا أنه ينسجم مع الثقافة السياسية التي درج عليها العراقيون منذ احتلال فلسطين.

 إن المتذمرين والمتهكمين على قانون تجريم التطبيع ليسوا أشرارًا ولا تنقصهم روح التضامن مع شعب محتل مثل الشعب الفلسطيني

 ومن جهة أخرى علينا إن نأخذ ردود أفعال الكثير من الناس، ما عدا الخصوم السياسيين طبعًا، على محمل الجد، ذلك أن المتذمرين والمتهكمين ليسوا أشرارًا، ولا تنقصهم روح التضامن مع شعب محتل مثل الشعب الفلسطيني، ولا ينبغي علينا النظر إليهم بطريقة عقائدية متصلّبة، فمرثية الوجع العراقي لم تعد تُحتَمَل، ويتساءل الناس عن السر الذي جعل القوى السياسية تتفق بالإجماع على إقرار هذا القانون فيما عجزت عن تشريع قوانين تصب في صالح التنمية، والعدالة، والمواطنة، والحرية، مثل قانون تجريم الطائفية، ومكافحة الفساد، وحماية الحريات المدنية، وتشييد البنى التحتية شبه المتهالكة، وغيرها الكثير.

 فمثل هذه القوانين التي تشعر المواطن بالثقة والأهمية كفيلة بأن تعزز الوجدان الشعبي، وتحقق التضامن السياسي تجاه هكذا قوانين حساسة، وإلا ستغدو حبرًا على ورق، ولا تخرج عن دائرة التجاذبات السياسية.