03-مارس-2024
أزمة المياه في العراق

تحدث تقرير عن فساد الأمم المتحدة في العراق (فيسبوك)

لم يَكن تقرير صحيفة الغارديان بتاريخ 22 كانون الثاني/يناير 2024، هو التحقيق الاستقصائي الأول عن فساد منظمات و هيئات الأمم المتحدة في العالم، بَيدَ أنه أول تحقيق صحفي استقصائي يفتح أبواب الأسئلة لتعقب شبكات الفساد لتلك البعثات منذ عملها في العراق بعد عام 2003.

تحدث تقرير صحفي عن ضياع مليار ونصف المليار دولار فقط ضمن منظمة صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة لإعادة إعمار العراق

وتكاد تكون منظمات أو بعثات الأمم المتحدة في العراق، أحد "الخطوط الحمراء" التي لم يتجرأ أي أحد على كشف ملفات فسادها وتواطؤها مع الحكومات العراقية المتعاقبة، والمنظومة السياسية الحاكمة، إذ أنّ أهم أسباب عدم إثارة الأسئلة من هذا النوع، هو غياب الفهم المعرفي لآليات وجود المنظمات الدولية، وكذلك عدم البحث في ماهية مهام التفويض (Taks' mandate) الذي تُنفذ بموجبه تلك المَهام، كما أنّ أحد أهم أسباب غياب هذا الفهم المعرفي، هو الفهم المُشوه نفسه لتلك الكيانات الأممية في جسد النظام السياسي، وطبيعة العلاقات التي تتحكم في ما بينهما، والتي تتسم بخاصية الإدراك ما بعد الاستعماري (Postcolonialisim) لتلك المنظمات والبعثات حتى من غالبية النخبة العراقية.

وكالعادة مَر ملف فساد فريد من نوعه مرور الكرام، فلا غرابة في أن التخادمات الفاسدة بين المنظومة السياسية الحاكمة وتلك المنظمات، يتم كشفها طالما أنهما يسبحان في فُلك مُحكم بلا رقيب، لكنّ ما يُلفت الانتباه هو شُبه الصمت على التقرير الاستقصائي للصحفية في شؤون الشرق الأوسط سيمونا فولتن (Simona Foltyn) عن ضياع مليار ونصف دولار فقط ضمن منظمة صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة لإعادة إعمار العراق (UNDP).

والمؤلم في الأمر، راحت بعض الأصداء بعد نشر ذلك التقرير هو الخَلط بين منظمة صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة لإعادة إعمار العراق (UNDP) وبين بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق يونامي (UNAMI) حتى اضطر الأمر إلى أن تُصدر الأخيرة بيانًا توضيحيًا للفصل بين هذين المُسمَيين، في حين أن الجزء الأهم في التقرير لم يتم استثماره حتى من قوى المعارضة والأحزاب السياسية الناشئة، وهو أن قيمة الفساد البالغة مليار ونصف المليار دولار، هي تمويل منحته أكثر من 30 دولة أوروبية وغربية، أي أن دعم المجتمع الدولي وتخادماته مع المنظومة السياسية الفاسدة، هو على حساب دافعي الضرائب في تلك الدول، وهو ما لم تَلتفت إليه أي من القوى المعارضة الراغبة في تصحيح مسار العملية السياسية لإثارة الرأي العام الغربي في تلك الدول المانحة ضد حكوماتها، واعتبار أن المجتمع الدولي مُساهم في ذلك الفساد ومُشرعِن له مع صمتٍ مُتعمد.

والسؤال هنا: هل فعلًا يونامي (UNAMI) ليس لها علاقة بملف فساد بعثة صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة لإعادة إعمار العراق (UNDP)؟

وفي العام 2015 ارتَكبت القوة الجوية الهولندية خطأً أثناء تنفيذ ضربة جوية ضمن عملية العزم المُتأصل التي أطلقها التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" وأودت إلى الكارثة بحياة 85 شهيدًا من الأطفال والنساء المدنيين في الحويجة، وكانت جينين بلاسخارت آنذاك تشغل منصب وزيرة الدفاع الهولندي كمسؤول مباشر عن ذلك الخطأ، وبالرغم من اعتراف السُلطات الهولندية بذلك الخطأ والتقصير، إلا أنّ بلاسخارت أفلتت من العقاب ومُورِسَ التعتيم والتضليل الإعلاميين عليها، لا بل كوفئِت برئاسة البعثة الأممية لمساعدة العراق يونامي فيما بعد لسنوات طويلة.

وفي السنة الماضية، كشف أحد الصحفيين الاستقصائيين لصحيفة الأخبار الهولندية تقريرًا استقصائيًا آخر عن ضياع أربعة مليون ونصف المليون يورو كتعويضات خصصتها الحكومة الهولندية لضحايا الحويجة نتيجة خطأ الضربة الجوية التي كانت بلاسخارت المسؤول الأول والمباشر عنها، والأهم ما جاء في ذلك التقرير، أن تلك التعويضات لم تذهب مباشرة إلى ذوي الضحايا كتعويضات، بل تم تمريرها عن طريق منظمة صندوق التنمية التابع للأمم المتحدة لإعادة إعمار العراق (UNDP) واختفت في شبهات فساد ضمن حجم التمويل الذي كشف عنه تقرير صحيفة الغارديان الأخير، أي بمعنى أنّ الحكومة الهولندية (ضربت عصفورين بحجر واحد؛ المبلغ المخصص كتعويضات لذوي الضحايا هو ذاته مساهمة هولندية لإعادة إعمار العراق).

"مبادرة تعالوا نفضحها"

وهنا نخاطب "النخب العراقية"، ولا أقصد بعنوان المبادرة هذه بلاسخارت شخصيًا فحسب بل كل مُسميات الأمم المتحدة (UN) المختلفة العاملة في العراق، وما أدعو إليه هنا هو استراتيجية مُتبعة غربيًا تُدعى (Naming and shaming) وهو اصطلاح سياسي وعلمي ضمن الدراسات السياسية في القانون الدولي وحقوق الإنسان لم يدخل القاموس السياسي العراقي بعد، وتقوم هذه الآلية بتعرية وتخزية الجهات الحكومية والدولية التي تنتهك حقوق الإنسان أو تمارس فسادًا، مُستغلة تلك الحصانة الأممية سواء من موظفين أو بعثات ومنظمات.

وهذه الآلية، هي عكس ما نمارسه دومًا من كتابة مذكرات الاحتجاجات المعنونة إلى رؤساء تلك البعثات الدولية أو حتى الأمين العام للأمم المتحدة (لشَحذ) بيانات هزيلة من الشجب و الاستنكار، بينما هي توفر غطاء الشرعية الخارجية للمنظومة الفساد في حكم العراق، وأعتقد أن الآوان آن إلى إعادة النظر في آليات وجود تلك المنظمات والبعثات وفتح ملفاتها بالبحث والاستقصاء وفرض واقعًا جديدًا لوجودها وعملها.

وهنا أدعو النخب العراقية من خلال (تعالوا نفضحها) إلى حَمل تلك المبادرة و تنفيذها من خلال:

  • أن يكون منح تفويض البعثات الدولية والمنظمات الأممية تحت شعار (UN) مسؤولية البرلمان العراقي وليس الحكومة العراقية، وأن تستحصل الحكومة العراقية موافقة البرلمان، ومن ثم تستكمل إجراءات طلب عمل تلك البعثات الدولية والمنظمات عن طريق وزارة الخارجية والقنوات الدبلوماسية الرسمية.
  • أن تُشكل لجنة ثابتة في مجلس النواب مهمتها متابعة ومراقبة عمل تلك البعثات الدولية والمنظمات وأن تكشف للرأي العام أي ملفات فساد أو شبهات تتعارض مع وجود وعمل تلك البعثات والمنظمات بوصفها - أي اللجنة البرلمانية – هي الممثل الشرعي للشعب.

وما لم تتبنى القوى السياسية الناشئة والقوى الوطنية المعارضة هذه المبادرة المُعلنة حاليًا كخطوة من أجل تغيير وإصلاح النظام السياسي، سيتم استثمارها من القوى السياسية التقليدية فيما بعد جزئيًا أو كليًا. أرجوكم.. تعالوا نفضحها.