13-نوفمبر-2021

المعرفة ابنة الذاكرة (فيسبوك)

ما فرغتُ من قراءة كتاب لـعبد السلام بنعبد العالي إلا وتساءلتُ: ما موضوع هذا الكتاب؟ فما من جملةٍ يمكن أن تُجمل هذه النصوص. والعنوان، حتى العنوانُ لا يسعف في تكوين اسم جامع مانع لهذه الفصول المكتوبة "قفزًا ووثبًا" كما هي عادة بنعبد العالي.

 شائع القول إن المعرفة ابنة الذاكرة هي ألصق بالتذكر وأقرب إلى أن تكون استقاء من ينبوع إرثنا الذي نختزنه في ذاكراتنا

مرة سألتُ عليّ حرب عمّا يجمع بين المقالات التي ضمّنها أحد كتبه، فقال لي: "أنا الجامع بينها. هذه المقالات تشترك في أمر واحد هو أني أنا كاتبها". ربما يصلح هذا الجواب تبيانًا لنثار كتب علي حرب، لكنّ كتاب بنعبد العالي "قراءات من أجل النسيان" الصادر حديثًا عن دار المتوسط بإيطاليا يستبطن جامعًا خفيًا مستترًا برغم "بل بسبب" كونه عميقًا.

اقرأ/ي أيضًا: والله إن هذه الحكاية لحكايتي لكيليطو.. كسر الإيهام من أجل الاستغراق في الوهم

والآن، بمَ يفكّر هذا الكتاب؟ أم أن علينا أن نسأل: بمَ يريدنا هذا الكتاب أن نفكّر؟

في كل فصول الكتاب دعوة صريحة حينًا وومواربة غالبًا للانتقال إلى ضفة أخرى، لمغادرة موقعنا الذي بنيناه وأثثناه بموادّ متاحة مما يقع في أيدينا عادة، ذاك أنّ وجهات نظرنا هي اسم آخر لمواقع أقدامنا، وما تمسكُّنا بها ودفاعُنا عنها إلا أثر جانبيّ للألفة والاعتياد والركون إلى الشائع والمكرر. كأنما فصل الخطاب والقول النافذ الجازم والاحتماء بالمسلّمات هي بضائع يتداولها أولئك الذين تعبوا من السفر، الذين قرروا الإقامة أخيرًا في مكانهم وإراحة أقدامهم من المسير الشاقّ وفضّلوا الإخلاد إلى الأرض.

يمدّ بنعبد العالي يديه ليدير وجوهنا وأنظارنا إلى الوجهة الأخرى من أجل إكمال الرحلة.

 شائع القول إن المعرفة ابنة الذاكرة، هي ألصق بالتذكر وأقرب إلى أن تكون استقاء من ينبوع إرثنا الذي نختزنه في ذاكراتنا. وشائعة أيضًا مقولة إفلاطون "المعرفة تذكّر"، غير أن كتاب بنعبد العالي يضمّ مرافعات تجادل عن قدرة وأهمية النسيان في صناعة الفلسفة والمعرفة بعامة. يبدأ كتابة باقتباس عن ابن منظور يتضمن نصيحة خلف الأحمر الشهيرة لأبي نؤاس التي طلب منه فيها أن يحفظ ألف بيت، ثم طلب منه أن ينساها ليحق له قول الشعر. يوحي هذا الاقتباس أن معرفة ما هي بالضرورة تناوب تذكر ونسيان، أو هي نسيان يفعل فعله بالذاكرة ليكون المرء قادرًا على أن يعرف. يشتغل الكتاب ضدّ هذا الشيوع، وفي مقابل جملة إفلاطون يضع جملته التي تسمعها دون أن يقولها: المعرفة نسيان.

شائع أيضًا أن يصاب الإنسان بفقدان الذاكرة، لكنّ الكتاب يأخذ بنا إلى مرض مغاير تمامًا، ينقلنا بعونٍ من بورخس إلى الوضعية المأساوية التي يتلبس بها الإنسان حين يصاب بمرض فقدان النسيان. ما الذي يحدث له حين يعجز عن أن ينسى شيئًا. يصف بورخس الحال الكابوسية لشخص فقد القدرة على النسيان، ومن أولى علائم مأساته أن يكفّ عن التفكير، يصبح غير قادر على أن يفكّر "إن ذاكرتي يا سيدي، أشبه ما تكون بركام من النفايات.. أشكّ مع ذلك في أنه قادر على التفكير. التفكير هو تناسي الاختلافات الجزئية. هو التعميم والتجريد. أما في عالم فونيس الممتلئ فلا وجود إلا للجزئيات والتفاصيل التي تكاد تكون مباشرة".

من لا يستطيع النسيان لا يستطيع التفكير. هذه خلاصة الفصل الذي استعار فيه المؤلف صوت بورخس. وتنويعًا على ذات الخلاصة يتساءل المؤلف في فصل آخر "ماذا يقرأ الفلاسفة؟" ما الذي يحتاجه الفيلسوف من كتب لينجز كتابه الشخصيّ؟ يثب المؤلف برشاقة من فيلسوف لآخر متتبعًا أمثلة لفلاسفة لم يكونوا قراء صارمين، وأغفل بعضهم عمدًا قراءة أعاظم الفلاسفة، بل أن كثيرًا منهم بحثوا عن الدرس الفلسفي في غير مظانه المعتادة، فوجدوه في الشعر والعلوم الطبيعية.

ويخلص مع دولوز إلى أن الفيلسوف لا يقرأ لتحصيل معارف وتكديس معلومات. يقول دولوز: ليس لديّ احتياطيّ فكر! إنه يقرأ من أجل الانفصال "وليس من أجل شحن الذاكرة، وإنما من أجل النسيان".

كتاب عبد السلام بنعبد العالي تختصره رغبته في الإفصاح عن التالي: ما تراه عيناك في الأفق أعمق وأنبل مما تراه في موضع قدمك

هذه المرافعات القوية ضدّ الذاكرة من أجل تمجيد النسيان وإعلاء شأنه، ليست فصل الخطاب في الكتاب ولا تصلح أن تكون خلاصته، إذ أن فصولاً أخرى تتوالى تباعًا لا تشتغل على ثنائية التذكر والنسيان لكنها كلها بمجملها تشير إلى ضرورة مغادرة الطمأنينة التي يأتي بها الاعتياد والألفة.

في الكتاب مديح للحياة في مقابل الكتابة، وحثّ على البطء وتقليل من شأن السرعة، والدعوة إلى المشي باعتباره عبادة لا رياضة، وتصالح مع قول العالم بلسانين مختلفين. وكل ذلك مؤدّى بلعب فنيّ ذكيّ وعبارات برقية تومض لتضيء قليلاً وتنطفئ تاركة المجال لعبارة جديدة مضيئة.

ما من كتاب يختصر إلا بتعسّف.

وأريد الآن أن أغدو متعسفًا فأقول إن كتاب عبد السلام بنعبد العالي تختصره رغبته في الإفصاح عن التالي: ما تراه عيناك في الأفق أعمق وأنبل مما تراه في موضع قدمك.

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

لا أحد يعرف أحدًا

كيف ومتى أصبحنا معدة تطحن نفسها؟