06-ديسمبر-2021

حاولت أوائل الصحف العراقية استبدال سلطة العثمانيين بسلطة الاحتلال البريطاني (فيسبوك)

الإنجليز في العراق

في العام 1914 دخلت جيوش الإنجليز للبصرة وعلى مدى سنوات قليلة، بدءوا بالانتشار في العراق، وكان اهتمامهم بشكل كبير مركّز جدًا على الصحافة، يذكر الصحفي العراقي رفائيل بطي أن لويد جورج رئيس وزراء بريطانيا حينها، قال "إنما كسبنا الحرب بواسطة الصحافة".

كانت محاولة صحيفتي "العرب" و"العراق" ليس في تأسيس سرد دولة، بل لتأسيس سرد يستبدل سلطة العثمانيين بجعل العراقي تابعًا لسلطة الاحتلال البريطاني 

في بغداد، وبعد أن استتب الأمن للبريطانيين، وقع أمرهم على إصدار جريدة "تخدم أغراضهم وتنشر خططهم وتطلع الجماهير على سياستهم الظاهرة"، كما يعبّر الاستاذ بطّي. وفي الحال تم إنشاء جريدة "العرب" بأشراف المس بيل ومجموعة من أبرز الصحفيين العراقيين في ذلك الوقت.  كتب في الصحيفة وحررها "نخبة من رجال العلم والأدب في بلاد الرافدين ألفت قلوبهم سلطة الاحتلال وأغرتهم بأنها جريدتهم لبث الفكرة العربية وخدمة اللغة وتثقيف الشعب وأجزلت لهم أجور الكتابة، ولعلّها المرة الأولى في عراقنا تناول الأدباء والكتاب أجورًا محترمة على نتاج أقلامهم، فحرر فيها شكري الفضلي وكاظم الدجيلي وعبد الحسين الأزري ومحمد مهدي البصير وعطا أمين".

اقرأ/ي أيضًا: قصة "سرد الدولة" في أدب غائب طعمة فرمان (1ـ5)

الآن، لنلقي نظرة عن مواضيع جريدة "العرب" وعن نوع الخطاب الذي كانت توجهه إلى المواطن العراقي.

بالمجمل كانت مواضيع الجريدة تتحدث عن تنفير العراقيين من الأتراك وتحبيبهم بالإنجليز، في العدد الأول الصادر في 4 تموز/يوليو 1917. وتحت مقال بعنوان "انكلترا محررة العرب"، نقرأ: "فلما رأت انكلترا ما في هذين القومين من العناصر المتباينة وما فطر عليه كل منهما من الصفات الحسنة والسيئة وشتهدت أن الترك أبناء يأجوج ومأجوج يريدون ملاشاة العرب هذا العنصر الطيب الذي خدم في ماضي حياته العلم والعمران والألفة والبشر خدمة لا تنسى آلت على أن تساعدهُ على عنصر العدو قيامًا بما تفرضه الواجبات على البشرية وهي: إذا أحسن إليك محسن مرة فاحسن إليه مثنى وثلاث ورباع".

وسأورد لكم بعض عناوين المقالات ومقدماتها والتي تسير بهذا الاتجاه لغرض إعطاء صورة عن الخطاب الذي تروّج له صحيفة العرب: "فضائع الأتراك الاتحاديين في مدينة الرسول"، "ما قاسى العرب من الترك في بغداد"، "إفساد الترك لحروف هجاء العرب"، "حُسن نيات بريطانيا العظمى نحو العرب وديارهم"، "قبل الاحتلال المبارك كان الجندي.."، "أدلة بغض الترك للعرب"، "شعر: الإنجليز هم ما خاب صاحبهم.. ولا بحقوق العرب جهّال"، "شعر في مدح ملك الملوك صاحب العدالة حضرة جلالة جورج الخامس دامت شوكته".

أما ما يخص الصحيفة الأخرى التي انشأها البريطانيون في العراق، فهي صحيفة "العراق"، والتي جاءت كبديل لصحيفة "العرب". في العدد الأخير من جريدة "العرب"، نُشر خبر جاء فيه "يصدر غدًا العدد الأول من جريدة العراق، وهي جريدة يومية تبحث في السياسة والأدب والاقتصاد لصاحبها الوحيد رزوق أفندي داود غنام، وهذا العدد من جريدة العرب والعدد الأخير، فنودع قراءنا ونشكرهم على إقبالهم على مطالعتها ومورزاتهم إياها منذ صدورها إلى الآن".

لكن الدور الخطير الذي اتخذته هذه الصحيفة هو أنها لم تكن تروّج للاحتلال البريطاني وتعادي العثمانيين، بل كانت تروّج للبريطانيين وتعادي العرب في أثناء ثورة العشرين.

كتبت "العراق" في العدد 56 في 5 آب/اغسطس 1920: "صدر البلاغ الآتي عن الموقف في الفرات: وقع في ليلة الـ 31 من شهر تموز هجومًا على الحلة دام عدة ساعات فكُسر الهجوم ودُحر تمامًا وتكبدت القبائل خسائر كثيرة وتركوا وراءهم 149 قتيلًا جمعت أشلاؤهم وبعض المجروحين فأخذوا أسرى، وقد نقل العصاة تحت جنح الظلام عددًا كبيرًا من القتلى والجرحى أما خسائر الإنجليز فأنها تبلغ 9 قتلى وأقل من 20 جرحى".

في عدد آخر تضيف الصحيفة مبررة قصف الطائرات البريطانية "مسجد الكوفة"، بالقانبل أن "العصاة كانوا يطلقون النيران من داخله"، "وبينما كانت الطائرات محلقة فوق الكوفة أطلقت عليها النيران من هذا الجامع فقابلتها الطيارات بالمثل غير عالمة أنه جامع وألقت قنابلها في جواره". نلاحظ من صياغة الخبر أن "خيرة صحفيي العراق" كانوا يدافعون عن المحتل لدرجة أنهم يقولون إن "قنابل الطائرات البريطانية" سقطت بـ"جوار" مسجد الكوفة ولم تصبه!

في خبر آخر نقرأ "واحتشد من العرب في الأخير 2.000 رجل معهم الأعلام فشتتهم نيران المدافع. وبلغ مجموع الخسائر من العرب مبلغًا جسيمًا وكانت خسائر الإنجليز نحو 20". وأيضًا "وصلت الحلة الكتيبة التي عادت من الديوانية بقيادة كوننهام بعد أن أدبت القرى العاصية في طريقها، وقد أدبت أيضًا القرى العاصية التي في شرقي الحلة وقامت بذلك قوة من جنود الحلة، ويظهر على العصاة في هذه المنطقة أمائر وهي الجلد بعد أن نالوا التأديب الصارم الذي نزل فيهم مؤخرًا".

من هذا الخطاب ـ والمئات من مقالات الصحيفة التي لا يسع المجال لذكرها ـ نستطيع أن نفهم نوع السرد الذي كان يروّج له مجموعة من أبرز صحفيي العراق في صحيفتي "العرب" و"العراق". كانت المحاولة واضحة ليس في تأسيس سرد دولة يعزز من فهم العراقي لمعنى الدولة، بل لتأسيس سرد يستبدل سلطة العثمانيين بجعل العراقي تابعًا لسلطة الاحتلال البريطاني بالمديح أولًا، وإن لم ينفع؛ فبالقوة لا غير.

فيصل الأول

لن أتناول في هذا الجزء سيرة الملك فيصل الأول، وسأقتصر في حديثي عنه على خطابين فقط. الأول خطاب توليه العرش، والثاني خطابه الأخير والخاص برؤيته للعراق. ومن خلال هذين الخطابين ستتوضح لنا الصورة الأخيرة لما آل إليه «شكل» الدولة ونمط سردها في العراق.

بعد أن شكر الملك فيصل الشعب العراقي على "مبايعته" قال: "وإنه ليجدر بي في مثل هذه الساعة التاريخية التي برهنت فيها الأمة العراقية على خالص ودها نحو أسرتنا الهاشمية أن أذكر ما لجلالة والدي الملك حسين الأول من الأيادي البيضاء"، كما ذُكر في صحيفة "زوراء" العدد 308 بتاريخ 23 آب/أغسطس 1921.

إن هذا الخطاب، هذا السرد، ما زال يحاول - بعمد أم بغيره - ترسيخ فكرة ارتباط ولاء العراقي بجهات خارجية، كما فعل مدحت باشا عندما مجّد السلطان العثماني في خطبته التي ألقاها على العراقيين.

يُضيف فيصل في خطابه "وهنا واجب آخر يدعوني لأن أرتل آيات الشكر للأمة البريطانية إذا أخذت بناصر العرب  في أوقات الحرب الحرجة فجادت بأموالها وضحت بأبنائها في سبيل تحريريهم واستقلالهم وأنني اعتمادًا على صداقتها ومؤازرتها التي أظهرتها وتعهدت لنا بها أقدمت على القيام بشؤون هذه البلاد شاكرًا للحكومة المؤقتة همتها ولفخامة المندوب السامي محبته وللحكومة البريطانية العظمى اعترافها فيّ ملكًا للدولة العراقية المستقلة التي دعيت لملكيتها بإرادة الشعب مباشرة".

إن فيصل يشكر الإنجليز بصورة مباشرة، لكنّه يتناسى بصورة متعمّدة الآلاف من الأرواح التي قتلها البريطانيون في ثورة العشرين أثناء سعيهم للاستقلال، فالدولة البريطانية - بحسب فيصل - جادت بأبنائها وأموالها - لغرض "تحرير" العراق. إن كلّ هذه الإحالات التي ذكرها الملك فيصل، تقول وتؤكد وترسّخ أن لا أحد ينظر للعراقي بصفته فردًا حرًا مستقلًا لا يحتاج لمساعدة خارجية في بناء دولته.

أما الخطاب الآخر الذي سأذكره لفيصل، هو خطاب خاص ذكره المؤرخ عبد الرزاق الحسني في كتابه تاريخ الوزارات العراقية، يقول فيصل "وفي هذا الصدد وقلبي ملآن أسى أقول إنه في اعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد كتلات بشرية خيالية خالية من أي فكرة وطنية متشبعة بتقاليد وأبطايل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائمًا للانتقاض على أي حكومة كانت، فنحن نريد - والحالة هذه أن نشكل من هذه الكتل شعبًا نهذبه، وندربه، ونعلمه".

وبرغم أحقيّة فيصل الأول في أن الشعوب يجب أن تُبنى وتُدرّب وتُعلّم، إلا أنّه ومع الأسف يرسّخ في مذكراته سردية الدولة العثمانية والاحتلال البريطاني، التي تدّعي أنّه لا يوجد في العراق شعب عراقي، وهذا بطبيعة الحال من أخطر الأمور، فما زلنا حتى الآن نعاني من هذا الطرح الخطير، ونُعامل بعضنا على أننا كتل بشرية منفصلة ليس بينها رابط.

شكر الملك فيصل الأول الإنجليز بصورة مباشرة في خطابه الأول لكنّه يتناسى بصورة متعمّدة الآلاف من الأرواح العراقية التي قتلها البريطانيون في ثورة العشرين أثناء السعي للاستقلال

أحب هنا أن أذكر حادثة يرويها أمين الريحاني في كتابه "ملوك العرب" عن سؤال سأله إيّاه فيصل الأول وعدّه أمين طريفًا، قال الملك: "ما رأيك يا أمين في العمامة والبرنيطة، وأي شكل تظنه يصلح لنا في العراق". إن هذا السؤال ليس طريفًا أبدًا، كان فيصل - وبناءً على قراءاته - يفهم من تعدد أشكال ملابس العراقيين أنهم مشتتون وأن كلّ فئة نستطيع أن نحدد انتماءاتها من ملابسها، لذا فكّر بزيّ موحّد، يجمع العراقيين ويميّزهم عن الشعوب الأخرى. فكانت "السدارة الفيصلية".

 

 

 

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أزمة الاستبداد.. اغتيال الصحافة في الرواية العراقية

سعد محمد رحيم.. أهوال الحياة العراقية